الحمد لله.
ليس من الحكمة في شيء أن يصير عمل الخير والمعروف سببا للنزاع والشقاق بين الزوجين
، وسببا لتبادل الاتهامات وإحداث الاضطرابات في الأسرة التي كانت آمنة مطمئنة ،
فذلك من سبيل الشيطان الذي يريد أن يوقع بين الناس العداوة والبغضاء ، ويفرق أواصر
المحبة والألفة بينهم ، ولو عرف كل واحد حقوقه وواجباته لما وصل الحال إلى ما ذكر
في السؤال .
فالحضانة في الشريعة الإسلامية حق للحاضن وليست حقا عليه ، بمعنى أن الحاضن بالخيار
، إن شاء حضن الولد واشتغل بتربيته ورعايته ، وإن شاء ردَّه إلى وليه وطلب منه
كفالة المحضون بمن يقوم على شؤونه ، ولا يجب إلا في حالة الاضطرار ، بأن لا يتوفر
إلا هذا الحاضن ، فحينئذ لا يجوز له أن يترك الولد إلى ضياع .
وهذا كله في الولد الذي بينه وبين حاضنه رحم ، فكيف الشأن إذا كان المحضون يتيما
تريدون كفالته ، لا شك أن هذا أولى أن لا يكون واجبا على الزوجة .
يقول ابن الهمام الحنفي رحمه الله :
" إذا طلبت الأم فهي أحق به ، وإن أبت لا تُجبر على الحضانة " انتهى من " فتح
القدير " (4/368) .
ويقول ابن عابدين الحنفي رحمه الله :
" اختُلف في الحضانة ، هل هي حق الحاضنة ، أو حق الولد ؟ فقيل بالأول ، فلا تجبر
إذا امتنعت ، ورجحه غير واحد ، وعليه الفتوى " انتهى باختصار من " رد المحتار "
(3/559) .
ويقول النفراوي المالكي رحمه الله :
" حكم الحضانة هو الوجوب العيني إن لم يوجد إلا الحاضن ولو أجنبيا من المحضون ،
والكفائي عند تعدده " انتهى من " الفواكه الدواني " (2/65) .
ويقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله :
" الأم لا تجبر - يعني على الحضانة -، ومحله إذا لم تلزمها نفقته ، وإلا أجبرت "
انتهى من "تحفة المحتاج" (8/359) .
ويقول البهوتي رحمه الله :
" لو امتنعت الأم من حضانته لم تجبر عليها ؛ لأنها غير واجبة عليها " انتهى من "
كشاف القناع " (5/496) .
وقد استدل الفقهاء على ذلك بقوله تعالى : ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ
فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ) الطلاق/6.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله :
" ( تعاسرتم ) أي : في أجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الأم رضاعها ، وأبت الأم أن
ترضعه ، فليس له إكراهها ، وليستأجر مرضعة غير أمه " انتهى من " الجامع لأحكام
القرآن " (18/169) .
ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله :
" أي : وإن اختلف الرجل والمرأة ، فطلبت المرأة أجرة الرضاع كثيرا ولم يجبها الرجل
إلى ذلك ، أو بذل الرجل قليلا ولم توافقه عليه ، فليسترضع له غيرها ، فلو رضيت الأم
بما استؤجرت عليه الأجنبية فهي أحق بولدها " انتهى من " تفسير القرآن العظيم "
(8/153) .
فليس من الواجب عليك كفالة تلك اليتيمة وحضانتها في بيتك ، كما لا يجوز لزوجك أن
يكرهك على ذلك ، فالإحسان لا يتحقق إلا بمحض القصد والإرادة الخالصة لوجه الله ،
وإلا كان عمل الخير وبالا على صاحبه .
ولا ينبغي قلب المندوبات إلى واجبات بدعوى الخوف من العقوبة ، فالله عز وجل لا
يعاقب إلا على المعاصي ، ويعفو عن كثير ، كما قال سبحانه : ( وَمَا أَصَابَكُمْ
مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى/30.
ولا يبتلي لأجل ترك عمل مندوب ، وإنما لحكمة يعلمها سبحانه .
ومع ذلك نقول لكم إنكم
أحسنتم حين نويتم عازمين على كفالة اليتيم ، فأكرمكم الله عز وجل بالولد الصالح
بإذنه سبحانه ، فكان من شكر النعمة أن تتموا ما عزمتم عليه ، وتتكفلوا تلك اليتيمة
أو فاقدة الوالدين شكرا لله عز وجل على منته عليكم ، فقد قال سبحانه وتعالى : (
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ
اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) النحل/114، ولكن ذلك لا يعني وجوب
كفالة تلك اليتيمة في حقكم ، وترتب العقوبة عليكم إن لم تفعلوا ذلك ، بل ولا يعني
ذلك أن تخفوا أمر ابنكم الحقيقي ، لأجل ألا تمنعوا من كفالة اليتيم ؛ فإن كان ذلك
شرطا للقائم على أمر الأيتام ، فليس لكم أن تخفوا حقيقة الأمر عنهم ؛ والأحكام
الشرعية لا تختلط بهذه الطريقة ، بل يبقى المستحب مستحبا حتى ينتقل إلى الوجوب
بدليل شرعي كالنذر مثلا .
ولهذا نوصيك بالحرص على
رعاية تلك اليتيمة ما أمكن ، واحتساب ذلك لوجه الله ، واستحضار النية الصالحة كي
تنالي أجر كفالة اليتيم ، فإن لم تتمكني فلا حرج في الاعتذار لزوجك ، وتذكيره بما
سبق تقريره في هذه الفتوى ، وتذكيره بعدم جواز مخالفة تعليمات المؤسسة القائمة على
هؤلاء الأطفال ، فلا يجوز كتمان ولادتك عنهم ، فطاعة الله عز وجل لا تتم بمخالفة
التعليمات والشروط التي وضعت لمصالح الأطفال ، وقد التزمتم مع المؤسسة بالصدق وحفظ
الأمانة ، فلا تخلفوا ما تعاقدتم عليه ، وقد قال الله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) النساء/58.
أما عن حقيقة كفالة اليتيم التي يتحقق بها الأجر الوارد في الحديث فقد سبق بيانها
تفصيلا في موقعنا في الفتوى رقم : (47190).
والله أعلم .