الحمد لله.
أولا :
جعل الله الدنيا دار ابتلاء وتمحيص للمؤمنين ، وخير ما استعان به المسلم ما ذكره
الله في كتابه ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) البقرة/153، وليعلم المحبوس ظلما
أنه قد جرى مثل ذلك لمن هم أكرم على الله منه من المرسلين كيوسف عليه السلام وكثير
من علماء سلف هذه الأمة كالإمام أحمد وغيره فليصبر وليحتسب ذلك عند الله، دون أن
يمنعه ذلك عن بذل الأسباب المتاحة المباحة لرفع الظلم عن كاهله .
ثانيا :
الإضراب عن الطعام ، والامتناع عن تناوله ، أو تناول بعض أصنافه : إن كان جزئيا في
وقته ، أو نوعه ، بحيث لا يفضي به إلى الموت ، ولا إلى إلحاق الأذى بجسده فلا بأس
به ، لاسيما إن ترتب عليه مصلحة - ولو كانت ظنية - تؤدي إلى تحسين معاملته أو تقليص
مدة حبسه، لما فيه من إحراج الظالم أمام الرأي العام وإظهار ظلمه وتعسفه ؛ لأن غاية
ما فيه امتناعه عن مباح لا يتضرر بتركه ، وله أن ينويه صوما ليستفيد مع الامتناع
أجر الصوم .
أما إن كان امتناعه عن
الطعام يؤدي به إلى الموت أو إلى إتلاف بعض أعضائه : فيحرم عليه حينئذ الاستمرار في
الإضراب لما فيه من قتل النفس التي حرم الله بغير حق ، وهو محرم معلوم التحريم ،
ولو كانت نفسه ، فليس من حقه أن يقتلها ؛ قال الله تعالى : ( وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) البقرة/195، وقوله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ ) النساء/29 .
وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ،
فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا،
وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي
نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ
بِحَدِيدَةٍ ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ
جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ) رواه البخاري (5778) ، ومسلم (109)
.
قال شمس الأئمة السرخسي الحنفي رحمه الله في معرض كلامه عن الأسير : " وَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ ، وَلا أَنْ يُعِينَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ " انتهى من
"شرح السير الكبير" (4/1498) .
قال أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي رحمه الله : " مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْمُبَاحِ حَتَّى مَاتَ كَانَ قَاتِلا نَفْسَهُ مُتْلِفًا لَهَا عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ... لَوْ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْمُبَاحِ مِنْ الطَّعَامِ مَعَهُ حَتَّى مَاتَ كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى " اتنهى من "أحكام القرآن" (1/177) .
وقال القرافي المالكي رحمه الله : " لَوْ مَنَعَ مِنْ نَفْسِهِ طَعَامَهَا وَشَرَابَهَا حَتَّى مَاتَ : فَإِنَّهُ آثِمٌ قَاتِلٌ لِنَفْسِهِ " انتهى من "الفروق" (4/183) .
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين
رحمه الله : ما رأي سماحتكم في الإضراب عن الطعام ، فكثيرًا ما نسمع في الإذاعات
ونقرأ في الصحف ، أن أُناسًا يُضربون عن الطعام احتجاجًا على بعض الأحكام ، وهؤلاء
غالبًا ما يكونون من المسجونين ، فما حكم من تُوفِّىَ وهو مُضربٌ عن الطعام ؟
فأجاب بقوله : " حُكم من توفي وهو مضرب عن الطعام ، أَنَّه قاتل نفسه وفاعل ما نهى
عنه الله تعالى ، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: ( وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) ، ومن المعلوم أن من امتنع عن الطعام
والشراب لابدَّ أن يموت ، وعلى هذا فيكون قاتلاً لنفسه ، ولا يحلُّ لإنسان أن
يُضرِبَ عن الطعام والشراب لمدة يموت فيها ، أما إذا أضرب عن ذلك لمدة لا يموت فيها
، وكان هذا السبب الوحيد لخلاص نفسه من الظلم ، أو لاسترداد حقه فإنَّه لا بأس به ،
إذا كان في بلد يكون فيه هذا العملُ للتخلص من الظلم ، أو لحصول حقِّه ، فإنَّه لا
بأس به ، أما أن يَصِلَ إلى حدِّ الموت : فهذا لا يجوز بكل حال " .
انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (25/365) .
بل لو قدر أنهم لم يقدموا له
إلا طعاما محرما كالميتة : لم يجز له الامتناع منه إذا خشي على نفسه الهلاك بعدم
تناوله عند أكثر العلماء .
جاء في الموسوعة الفقهية " وَإِلَى هَذَا[ أي : وجوب الأكل منها للمضطر ] ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ . وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
) ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
) ، وَلا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يَتْرُكُ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا حَتَّى
يَمُوتَ يُعْتَبَرُ قَاتِلا لِنَفْسِهِ ، وَمُلْقِيًا بِنَفْسِهِ إِلَى
التَّهْلُكَةِ ، لأَنَّ الْكَفَّ عَنِ التَّنَاوُلِ فِعْلٌ مَنْسُوبٌ لِلإِنْسَانِ
" انتهى من "الموسوعة الفقهية - وزارة الأوقاف الكويتية" (5 /157) .
وقال ابن قدامة رحمه الله : " وَهَلْ يَجِبُ الأَكْلُ مِنْ الْمَيْتَةِ عَلَى
الْمُضْطَرِّ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا : يَجِبُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَسْرُوقٍ
, وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، قَالَ الأَثْرَمُ : سُئِلَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ [ يعني الإمام أحمد ] عَنْ الْمُضْطَرِّ يَجِدُ الْمَيْتَةَ ,
وَلَمْ يَأْكُلْ ؟ فَذَكَرَ قَوْلَ مَسْرُوقٍ : مَنْ اُضْطُرَّ , فَلَمْ يَأْكُلْ
وَلَمْ يَشْرَبْ , فَمَاتَ , دَخَلَ النَّارَ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ ;
وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى
التَّهْلُكَةِ ) ، وَتَرْكُ الأَكْلِ مَعَ إمْكَانِهِ فِي هَذَا الْحَالِ إلْقَاءٌ
بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ , وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) . وَلأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى
إحْيَاءِ نَفْسِهِ بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ , فَلَزِمَهُ , كَمَا لَوْ كَانَ
مَعَهُ طَعَامٌ حَلالٌ " انتهى من "المغني" (9/415) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "الأَكْلَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَاجِبٌ .
قَالَ مَسْرُوقٌ : مَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ ، فَلَمْ يَأْكُلْ ، فَمَاتَ
دَخَلَ النَّارَ " انتهى من "الفتاوى الكبرى" (1/389) .
وقال كذلك : " وَالْمُضْطَرُّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ ، فِي ظَاهِرِ
مَذْهَبِ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ " انتهى من "الفتاوى الكبرى"
(5/547) .
والله أعلم .