الحمد لله.
أولا :
ليس كل شيء مذكور في القرآن أهم من كل شيء ثبت في السنة النبوية ، لم يقل بذلك أحد
من العلماء ، ولم يرد دليل في الكتاب أو في السنة يدل عليه ، بل قد واقع خلاف ذلك
كثيرا ، فقد ورد في القرآن الكريم ذكر كثير من الأمور التفصيلية لأحوال الخلق وقصص
الماضين ، كذكر الكلب الذي رافق أصحاب الكهف ، وذكر كلام النملة في قصة نبي الله
سليمان ، وبعض الأحكام الفرعية في سورة " النور " وغيرها ، كآداب الأطفال في
الاستئذان قبل الدخول على والديهم ، وشيء من آداب الطعام والشراب ، ونحوها من
الأمور التي لا نشك في فضلها وأهميتها ، ولكن ما ثبت في السنة النبوية من تفصيل صفة
الصلاة ومقادير الزكاة وشروطها وصفة الحج ونحوها أعظم شأنا ، وأعلى مقصدا في أحكام
الشريعة الإسلامية .
ولهذا فإن ذكر عدد أيام خلق السماوات والأرض في القرآن الكريم لا يدل بوجه من
الوجوه على أهميته الزائدة على أعداد الصلوات المفروضات في اليوم والليلة ، والقرآن
الكريم لم يخصص لبيان تفاصيل أركان الدين الأساسية والسنة النبوية للأمور الثانوية
، بل كل منهما وحي فيه أعلى شعب الإيمان وأدناها .
ثانيا :
هذا يدلك على أن الشريعة الإسلامية لا تفرق في الدلالات التشريعية والأولويات
الدينية بين ما ورد في القرآن الكريم ، وما ثبت في السنة النبوية ، خاصة حين يكون
ثبوته في السنة النبوية متواترا أو مستفيضا بحيث لم يقع في ثبوته خلاف ، كما هو
الحال في ذكر أعداد ركعات الصلاة وبيان أركانها وصفتها الإجمالية .
لذلك لا بد أن يستقر في عقل وقلب كل مسلم أن السنة - وهي ما أضيف إلى النبي صلى
الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير - هي أحد قسمي الوحي الإلهي الذي أُنزِل على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقسم الآخر من الوحي هو القرآن الكريم ؛ فقد قال
تعالى : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِن هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىْ )
النجم/3-4، وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : ( أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ القُرآنَ وَمِثلَهُ مَعَهُ ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ
شَبعَان عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : عَلَيكُم بِهَذَا القُرآنِ ، فَمَا وَجَدتُم
فِيهِ مِن حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدتُم فِيهِ مِن حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ،
أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَمَا
حَرَّمَ اللَّهُ ) .
رواه الترمذي (2664) وقال : حسن غريب من هذا الوجه ، وحسنه الألباني في " السلسلة
الصحيحة " (2870) .
لذلك يقول حسان بن عطية رحمه الله : " كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم
بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن " انتهى من " الكفاية " للخطيب (ص/12) .
وقد بوب الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه العظيم " الكفاية في علم الرواية "
(ص/8) بقوله : " باب ما جاء في التسوية بين حكم كتاب الله تعالى ، وحكم سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، في وجوب العمل ، ولزوم التكليف " انتهى.
وكلها أدلة تبين للسائل أن المسلم لا يفرق بين الثابت في الكتاب العظيم ، وبين
الثابت في السنة النبوية ، بشرط أن يكون ثبوته في السنة ظاهرا لا مطعن فيه ، وقد
سبق بيان ذلك في موقعنا في الجواب رقم (77243)
.
ثالثا :
السؤال عن الحكمة كثيرا ما يغفل معه السائل أن ما نراه من أحداث يومية في هذه
الدنيا ، وما نعيشه من تفاصيل الخلق التي لا تعد ولا تحصى ، وما ورد في الكتاب
والسنة من مئات آلاف النصوص التي تتحدث عن الشريعة والخليقة وعن الله جل جلاله ،
كلها يمكن أن تلحقها بسؤال عن الحكمة منها ، بل يمكن أن تسأل عن كل مسكوت عنه ما
الحكمة في السكوت عنه ، ولك أن تتصور بعد ذلك القدر الذي يمكن أن يستوعبه العقل
البشري من هذا السؤال ، بل لك أن تتصور مقدار الخلل الذي يلحق العقل من هذا الإلحاح
في سؤال الحكمة إلى درجة التكلف .
وذلك لا يعني نفي الحكمة عن جميع ما سبق ، ولكنه يعني أن القدر الذي سينكشف للإنسان
منها قدر ضئيل في جانب تلك المنظومة الهائلة من الحكم المتسلسلة ، وهي ضآلة متجذرة
تابعة لصغر عقل الإنسان في جانب هذا الكون الفسيح ، وفي جانب كثرة الأحداث والأسباب
والمسببات والعلاقات بينها ، وفي جانب عظمة الخالق جل وعلا ، فلا يجدر حينئذ
بالإنسان سوى أن يدرك حدود عقله ، فلا يهدر طاقته إلا فيما ينفعه في دنياه وآخرته .
يقول ابن الجوزي رحمه الله :
" رأيت في العقل نوع منازعة للتطلع إلى معرفة جميع حكم الحق عز وجل في حكمه ! فربما
لم يتبين له بعضها - مثل النقض بعد البناء - فيقف متحيرًا ! وربما انتهز الشيطان
تلك الفرصة ، فوسوس إليه : أين الحكمة من هذا ؟!
فقلت له : احذر أن تخدع يا مسكين ! فإنه قد ثبت عندك بالدليل القاطع - لما رأيت من
إتقان الصنائع - مبلغ حكمة الصانع ؛ فإن خفي عليك بعض الحكم ، فلضعف إدراكك .
ثم ما زالت للملوك أسرار ، فمن أنت حتى تطلع بضعفك على جميع حكمه ؟! يكفيك الجُمَل
! وإياك إياك أن تتعرض لما يخفي عليك ، فإنك بعض موضوعاته ، وذرة من مصنوعاته ،
فكيف تتحكم على من صدرت عنه ؟!
ثم قد ثبتت عندك حكمته في حكمه وملكه ، فأعمل آلتك على قدر قوتك في مطالعة ما يمكن
من الحكم ، فإنه سيورثك الدهش ! وغمض عما يخفى عليك ، فحقيق بذي البصر الضعيف ألا
يقاوي نور الشمس " انتهى من " صيد الخاطر " (ص/156) .
ويقول ابن القيم رحمه الله :
" تبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين ذو الحكمة البالغة والنعم السابغة الذي
وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته وله في كل شيء حكمة باهرة ، كما أن له فيه قدرة
قاهرة ، وهدايات ، إنما ذكرنا منه قطرة من بحر ، وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر
من أن تحيط بكمال حكمته في شيء من خلقه " انتهى من " شفاء العليل " (ص/239) .
رابعا
لعل من أعظم الحكم عن سكوت القرآن الكريم عن ذكر أعداد ركعات الصلوات المفروضة في
اليوم والليلة ، أن يثبت لعلماء الشريعة وأتباعها أهمية السنة النبوية ، وأنها
القسم الثاني من الوحي الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، لتكون علامة قاطعة
مفحمة لجميع من يدعوه الشيطان للتشكيك في السنة النبوية ، أو الطعن في حجيتها .
روى الخطيب البغدادي في " الكفاية " (ص/15) عن الحسن : " أن عمران بن حصين , كان
جالسا ومعه أصحابه فقال رجل من القوم : لا تحدثونا إلا بالقرآن , قال : فقال له :
ادنه , فدنا , فقال : أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن ، أكنت تجد فيه صلاة
الظهر أربعا ، وصلاة العصر أربعا ، والمغرب ثلاثا , تقرأ في اثنتين , أرأيت لو وكلت
أنت وأصحابك إلى القرآن ، أكنت تجد الطواف بالبيت سبعا ، والطواف بالصفا والمروة ,
ثم قال : أي قوم ؛ خذوا عنا ؛ فإنكم والله إلا تفعلوا لتضلن " انتهى .
وفي " الموسوعة الفقهية
الكويتية " ( 1 / 49 - 51 ) كلام نفيس ننقله للفائدة :
تنقسم مسائل الفقه من حيث إدراك حكمة التشريع فيه أو عدم إدراكها إلى قسمين :
أولهما : أحكام معقولة المعنى ، وقد تسمى أحكاما معللة ، وهي تلك الأحكام التي تدرك
حكمة تشريعها ، إما للتنصيص على هذه الحكمة ، أو يسر استنباطها .
وهذه المسائل هي الأكثر فيما شرع الله سبحانه وتعالى ، حيث : لم يمتحنا بما تعيا
العقول به حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم وذلك كتشريع الصلاة والزكاة والصيام والحج
في الجملة ، وكتشريع إيجاب المهر في النكاح ، والعدة في الطلاق والوفاة ، ووجوب
النفقة للزوجة والأولاد والأقارب ، وكتشريع الطلاق عندما تتعقد الحياة الزوجية . .
. إلى آلاف المسائل الفقهية .
وثانيهما : أحكام تعبدية ، وهي تلك الأحكام التي لا تدرك فيها المناسبة بين الفعل
والحكم المرتب عليه ، وذلك كعدد الصلوات وعدد الركعات وكأكثر أعمال الحج .
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن هذه الأحكام قليلة بالنسبة إلى الأحكام المعقولة
المعنى . وتشريع هذه الأحكام التعبدية إنما يراد به اختبار العبد هل هو مؤمن حقا ؟
ومما ينبغي أن يعلم في هذا المقام أن الشريعة في أصولها وفروعها لم تأت بما ترفضه
العقول ، ولكنها قد تأتي بما لا تدركه العقول ، وشتان بين الأمرين ، فالإنسان إذا
اقتنع - عقليا - بأن الله موجود ، وأنه حكيم ، وأنه المستحق وحده للربوبية دون غيره
، واقتنع - عقليا - بما شاهد من المعجزات والأدلة - بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم
المبلغ عنه فإنه بذلك قد أقر لله سبحانه وتعالى بالحاكمية والربوبية ، وأقر على
نفسه بالعبودية ، فإذا ما أمر بأمر ، أو نهي عن شيء ، فقال : لا أمتثل حتى أعرف
الحكمة فيما أمرت به أو نهيت عنه ، يكون قد كذب نفسه في دعوى أنه مؤمن بالله ورسوله
، فإن للعقول حدا ينتهي إليه إدراكها ، كما أن للحواس حدا تقف عنده لا تتجاوزه .
وما مثل المتمرد على أحكام الله تعالى التعبدية إلا كمثل مريض ذهب إلى طبيب موثوق
بعلمه وأمانته ، فوصف له أنواعا من الأدوية ، بعضها قبل الأكل وبعضها أثناءه وبعضها
بعده مختلفة المقادير ، فقال للطبيب : لا أتعاطى دواءك حتى تبين لي الحكمة في كون
هذا قبل الطعام وهذا بعده ، وهذا أثناءه ، ولماذا تفاوتت الجرعات قلة وكثرة ؟ فهل
هذا المريض واثق - حقا - بطبيبه ؟ فكذلك من يدعي الإيمان بالله ورسوله ، ثم يتمرد
على الأحكام التي لا يدرك حكمتها ، إذ المؤمن الحق إذا أمر بأمر أو نهي عنه يقول
سمعت وأطعت ، ولا سيما بعد أن بينا أنه ليس هناك أحكام ترفضها العقول السليمة ،
فعدم العلم بالشيء ليس دليلا على نفيه ، فكم من أحكام خفيت علينا حكمتها فيما مضى
ثم انكشف لنا ما فيها من حكمة بالغة ، فقد كان خافيا على كثير من الناس حكمة تحريم
لحم الخنزير ، ثم تبين لنا ما يحمله هذا الحيوان الخبيث من أمراض وصفات خبيثة أراد
الله سبحانه وتعالى أن يحمي منها المجتمع الإسلامي ، ومثل ذلك يقال في الأمر بغسل
الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبع مرات إحداهن بالتراب . . إلى غير ذلك من الأحكام
التي تكشف الأيام عن سر تشريعها وإن كانت خافية علينا الآن .
نرجو أن يكون الجواب قد وقع على محل التساؤل بدقة .
والله تعالى أعلم .