الحمد لله.
وهذا من فعل أبي علي النيسابوري – وهو من ثقات المسلمين وحفاظهم – وليس من فعل الحاكم أبي عبد الله .
وقال ابن حبان في ترجمة على بن موسى الرضا رحمه الله - وهو على بن موسى بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب - من كتابه "الثقات" (8 /456) : " ما حلت بي شدة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر على بن موسى الرضا صلوات الله على جده وعليه ودعوت الله إزالتها عنى إلا أستجيب لي وزالت عنى تلك الشدة ، وهذا شيء جربته مرارا فوجدته كذلك ، أماتنا الله على محبة المصطفى وأهل بيته صلى الله عليه وسلم الله عليه وعليهم أجمعين " انتهى كلامه .
فاهتان القصتان ثابتتان ، ولكن لا حجة فيهما على جواز التوسل المبتدع ، ولا على استحباب الدعاء عند قبور الصالحين ؛ وذلك لأمور ، منها :
أولا :
أن من المعلوم بالاتفاق بين أهل العلم أنه ما من أحد إلا ويؤخذ منه ويرد عليه إلا
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا حجة في قول أو فعل أحد من الخلق – كائنا من
يكون – إذا خالف كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
راجع للإفادة في ذلك بشيء من التفصيل جواب السؤال رقم : (179363)
.
ثانيا :
دعاء الله تعالى عند قبر أحد من الناس بدعة محدثة ، لم تكن من عمل من مضى من السلف
في القرون المفضلة : قرن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم من بعدهم ، ثم من بعدهم ،
وما كان هذا سبيله فهو بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله :
" المتبع عند علماء الإسلام في إثبات الأحكام هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله
عليه وسلم وسبيل السابقين الأولين ، ولا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول
الثلاثة نصا أو استنباطا بحال " انتهى من "اقتضاء الصراط" (ص 344) .
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
" أهل السنة والجماعة يقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة : هو بدعة ؛ لأنه
لو كان خيرا لسبقونا إليه ، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا
إليها " انتهى من
"تفسير ابن كثير" (7 / 278-279) .
وقال علماء اللجنة الدائمة :
" كان الصحابة رضي الله عنهم أحرص على الخير منا ، وأحب لرسول الله صلى الله عليه
وسلم وأعرف بحقه على الأمة وبآداب زيارته منا ، ومع ذلك لم ينقل عن أحد منهم أنه
كان يتردد على قبره صلى الله عليه وسلم والدعاء عنده " انتهى من "فتاوى اللجنة
الدائمة" (1 /480) .
ثالثا :
دعاء الله تعالى عند قبر أحد من الناس ، فوق أنه بدعة ، فهو ذريعة إلى دعاء الميت
نفسه من دون الله ، وهذا هو الشرك .
قال علماء اللجنة :
" دعاء الله عند الأضرحة والقبور بدعة ، وهو من وسائل الشرك ؛ لأن تحري دعاء الله
عند القبور وسيلة إلى الشرك بالله ؛ لإفضائه إلى دعاء الأموات ، ولهذا أنكر علي بن
الحسين على الرجل الذي كان يأتي إلى فرجة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتحرى
الدعاء عندها ، وقال : ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال : ( لا تتخذوا قبري عيدا ، ولا بيوتكم قبورا ، وصلوا علي فإن
تسليمكم يبلغني أين كنتم ) رواه الضياء في "المختارة" (428 ) .
فإذا كان هذا فيمن يتحرى الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف بغيره من
الناس ؟! " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (1 /185) .
رابعا :
الشريعة لا تثبت بالتجربة ، ولا بمجرد حصول استجابة دعاء عند عمل ما ؛ لأن مجرد
الاستجابة عند عمل ما لا يعني بالضرورة شرعية هذا العمل ، فربما حصلت الإجابة
اتفاقا ، وربما كان حصولها استدراجا .
قال الشوكاني رحمه الله :
" السنة لا تثبت بمجرد التجربة ، ولا يخرج بها الفاعل للشيء معتقدا أنه سنة عن كونه
مبتدعا . وقبول الدعاء لا يدل على أن سبب القبول ثابت عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ؛ فقد يجيب الله الدعاء من غير توسل بسنة ، وهو أرحم الراحمين ، وقد تكون
الاستجابة استدراجا " .
انتهى من "تحفة الذاكرين" (ص 211) .
وقد ذكر شيخ الإسلام ما يحتج
به القبوريون من استجابة الدعاء أحيانا عند القبر ثم قال :
" اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط كثير ، بل المشركون
الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون عند أوثانهم فيستجاب لهم
أحيانا ، كما قد يستجاب لهؤلاء أحيانا ، وفي وقتنا هذا عند النصارى من هذا طائفة ،
فإن كان هذا وحده دليلا على أن الله يرضى ذلك ويحبه : فليطرد الدليل ! وذلك كفر
متناقض " انتهى من "اقتضاء الصراط" (ص 344) .
خامسا :
إذا تنزّلنا وقلنا : هذا مما اختلف الناس فيه ، فالواجب رد ما اختُلف فيه إلى الله
ورسوله ؛ كما قال تعالى : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) النساء/ 59 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" إذا فعلها – يعني بعض البدع التي قد يراها بعض الناس حسنة- قوم ذوو فضل ؛ فقد
تركها قوم في زمان هؤلاء معتقدين لكراهتها ، وأنكرها قوم كذلك ، وهؤلاء التاركون
والمنكرون إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها ، فليسوا دونهم في الفضل ، ولو فرضوا دونهم
في الفضل فتكون حينئذ قد تنازع فيها أولو الأمر ، فترد إذن إلى الله والرسول ،
وكتاب الله وسنة رسوله مع من كرهها لا مع من رخص فيها " انتهى من "اقتضاء الصراط"
(ص 291) .
وأما أن الإمام الحاكم ، أو
ابن حبان ، أو غيرهما من أهل العلم ، قد ذكر مثل هذه الحكايات في كتاب له ، فهذا لا
يدل بحال على أنه يقول بها ، أو يعمل بمقتضاها ؛ فهذه ليست أدلة شرعية عنده حتى
يلتزم الأخذ بها ، بل إن مجرد روايته لحديث في كتاب لم يلتزم فيه الصحة ، مثل ما
يرويه في كتب التراجم ، لا يعني أنه يأخذ بهذا الحديث ، حتى نعلم أن مثل هذا الحديث
قد صح عنه ، ولا معارض له عنده ؛ وهذا أمر معلوم من صنيع أهل العلم من المحدثين ،
والمؤرخين .
راجع لمعرفة التوسل الشرعي والتوسل البدعي جواب السؤال رقم : (3297)
.
والله تعالى أعلم .