الحمد لله.
أولا :
يوم القيامة يوم عظيم ، تقع فيه من الأهوال الكبيرة التي وصفها الله عز وجل بقوله :
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ
عَظِيمٌ . يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ
بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) الحج/1-2.
ففي مثل تلك السكرات المهولة ، غالبا ما يغفل الناس عما سمعوه من قبل ، ولا يكادون
يستذكرون علما سابقا ، فقد شغلهم حالهم عن كل ما مضى من معارف ، وأنستهم مصيبتهم كل
شيء سوى التخلص مما هم فيه ، وإذا كانت الأرحام تتقطع ذلك اليوم ، ( يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ . وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ . لِكُلِّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) عبس/34-37. فكيف سيتذكر الناس
حينها حديثا مرفوعا سمعوه يوما من أحد العلماء ! لا شك أن ذلك احتمال بعيد . وقد
روى البخاري رحمه الله في " صحيحه " (1241) بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما – في
حادثة وفاة نبينا صلى الله عليه وسلم – : " أن أبا بكر رضي الله عنه تَشَهَّدَ
فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ ، وَتَرَكُوا عُمَرَ ، فَقَالَ : ( أَمَّا بَعْدُ ،
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ ، وَمَنْ كَانَ
يَعْبُدُ اللَّهَ ، فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) [آل
عمران: 144] إِلَى الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] " وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ
لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا حَتَّى تَلَاهَا أَبُو
بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ ، فَمَا يُسْمَعُ
بَشَرٌ إِلَّا يَتْلُوهَا ) .
فانظر كيف أن عِظَم المصاب كان سببا في الذهول عن آية في كتاب الله تعالى ، وموقف
الحشر موقف عظيم جدير أن يذهل بسببه المرء عن كل شيء .
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" فيه أنهم يغطَّى عنهم بعض ما علموه في الدنيا ؛ لأن في السائلين من سمع هذا
الحديث ، ومع ذلك فلا يستحضر أحد منهم أن ذلك المقام يختص به نبينا صلى الله عليه
وسلم ، إذ لو استحضروا ذلك لسألوه من أول وهلة ، ولما احتاجوا إلى التردد من نبي
إلى نبي ، ولعل الله تعالى أنساهم ذلك للحكمة التي تترتب عليه من إظهار فضل نبينا
صلى الله عليه وسلم " .
انتهى من " فتح الباري " (11/441) .
ثانيا :
ومن المؤكد أيضا أنه ليس جميع المسلمين يعلمون هذا الحديث الشريف ، الذي يرويه أبو
هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ
يَوْمَ القِيَامَةِ . وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَلِكَ ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ
الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي
وَيَنْفُذُهُمُ البَصَرُ ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الغَمِّ
وَالكَرْبِ مَا لاَ يُطِيقُونَ وَلاَ يَحْتَمِلُونَ ، فَيَقُولُ النَّاسُ : أَلاَ
تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ ، أَلاَ تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى
رَبِّكُمْ ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ : عَلَيْكُمْ بِآدَمَ ،
فَيَأْتُونَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَيَقُولُونَ لَهُ : أَنْتَ أَبُو البَشَرِ
، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ ، وَأَمَرَ
المَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ ، أَلاَ تَرَى إِلَى
مَا نَحْنُ فِيهِ ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا ؟ فَيَقُولُ آدَمُ :
إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ،
وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ، وَإِنَّهُ قَدْ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ
فَعَصَيْتُهُ ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي ، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي ، اذْهَبُوا
إِلَى نُوحٍ .
فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ : يَا نُوحُ ، إِنَّكَ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ
إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ ، وَقَدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا ، اشْفَعْ لَنَا
إِلَى رَبِّكَ ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ ؟ فَيَقُولُ : إِنَّ رَبِّي
عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ،
وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ
دَعَوْتُهَا عَلَى قَوْمِي ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي ، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي ،
اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ .
فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ : يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ
وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ ، أَلاَ تَرَى
إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ : إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ
غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ،
وَإِنِّي قَدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلاَثَ كَذِبَاتٍ ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي ،
اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي ، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى .
فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ : يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ ، فَضَّلَكَ
اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ عَلَى النَّاسِ ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ
، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ ؟ فَيَقُولُ : إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ
اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ
مِثْلَهُ ، وَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا ، نَفْسِي
نَفْسِي نَفْسِي ، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ .
فَيَأْتُونَ عِيسَى ، فَيَقُولُونَ : يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ ،
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي
المَهْدِ صَبِيًّا ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ
فِيهِ ؟ فَيَقُولُ عِيسَى : إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ
يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ قَطُّ ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ، وَلَمْ
يَذْكُرْ ذَنْبًا ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا
إِلَى مُحَمَّدٍ .
فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُولُونَ : يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ
وَخَاتِمُ الأَنْبِيَاءِ ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ
وَمَا تَأَخَّرَ ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ
فِيهِ ، فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ العَرْشِ ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ
وَجَلَّ ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ
عَلَيْهِ شَيْئًا ، لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي ، ثُمَّ يُقَالُ : يَا
مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، سَلْ تُعْطَهْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ
رَأْسِي ، فَأَقُولُ : أُمَّتِي يَا رَبِّ ، أُمَّتِي يَا رَبِّ ، أُمَّتِي يَا
رَبِّ . فَيُقَالُ : يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لاَ حِسَابَ
عَلَيْهِمْ مِنَ البَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ ، وَهُمْ شُرَكَاءُ
النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ ، ثُمَّ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ ، إِنَّ مَا بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الجَنَّةِ ، كَمَا
بَيْنَ مَكَّةَ وَحِمْيَرَ - أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى ) رواه البخاري
(4712) ، ومسلم (194) .
بل القليل من الناس هم من يعرفه أو يحفظه ، أما عامة الناس فغالبا لا يستحضرون
مثل هذه الأحاديث الطويلة ؛ لأنها بطولها تحول دون تداولها على الألسنة وحفظها .
كما أننا لا ندري إن كان الرسل والأنبياء السابقون قد أخبروا أقوامهم هذا الخبر أم
لا ، وأتباع جميع الأنبياء سيشاركون أمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف
العظيم . فلن يكونوا على علم بقول كل نبي كلمته المشهورة ( نفسي نفسي نفسي )، ولذلك
سيسلكون في سبيل طلب الشفاعة كل طريق ، وسيطرقون كل أبواب أولي العزم من الرسل .
بل قال العلماء وشراح الحديث إن هذه الشفاعة هي لبدء الحساب فقط ، فسيكون في ذلك
الجمع الكبير من الأمم الكافرة أو من لم تبلغهم دعوة نبي ونحوهم ، وهو ظاهر ما ورد
في بدايات الحديث ، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله : " ظهر منه أنه صلى الله عليه
وسلم أول ما يشفع ليقضي بين الخلق " انتهى من " فتح الباري " (11/438) .
فمن أين لجميع البشر الاطلاع على هذا الخبر الصحيح المروي عن نبينا عليه الصلاة
والسلام ؛ فضلا عن تصديقه والإيمان به ، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأتباعه
: هم الأقلون عددا يوم القيامة ؟!
والأهم من ذلك كله أن يعد العبد المسلم لذلك اليوم الحق ، وأن يشتغل فيما ينفعه
من أمور الدنيا والدين ، ولا ينشغل بالخيال في تفاصيل ما يقع في عرصات يوم القيامة
، مما لم يأت به نص ولا أثر ، فذلك عالم لا ندري كنهه ولم نتبين حقيقته إلا من خلال
الوقوف على الأخبار الصحيحة ، من غير قياس ولا استحسان .
والله أعلم .