صادفت هذا الموقع منذ فترة ، وأثار اهتمامي ، ولكن شعرت بقليل من عدم الطمأنينة حول ما تمت كتابته ، وبما أنني لست مسلما فأنا أعلم أنكم تكرهونني ، وقد ذكرتم في إجاباتكم على العديد من الأسئلة التي يرسلها الناس بوجوب بغض الكفار ، وتقول أيضا بأنك لا تستطيع أن تدرك لماذا يعتني بهم الناس ويحبونهم ، في وجهة نظري أنك تراني كأقل شيء في الوجود يفترض أن يكره ،لماذا ؟ ماذا فعلت لك ؟ أشعر بالسب عندما تلومني على الأعمال ، فأنا لم أرتكب جرائم ، ولم أتحدث للآخرين ، وأتحدث فقط لنفسي ، كيف ينبغي أن أعتنق الإسلام بينما أحاط بأناس يبغضونني ؟!
الحمد لله.
نشكر لك صراحتك وجرأتك في إرسال هذا السؤال ، وتأكد أن الجواب عليه من دواعي سرورنا
، فقلوبنا وقلب كل مسلم مليئة بالرحمة والشفقة على جميع الخلق ، مؤمنهم وكافرهم ،
ذكرهم وأنثاهم ، صغيرهم وكبيرهم ، أبيضهم وأسودهم ؛ كلهم بنو آدم ، وآدم من تراب ،
فالآدمية التي تجمعنا تذكرنا نحن المسلمين بأن أبانا آدم عليه السلام أخرجته معصيته
من الجنة ، فعاد ذلك على ذريته بالابتلاء ما بقيت الدنيا ، فمن بقي على فطرة
التوحيد التي كان عليها آدم عليه السلام فاز ونجا ورجع إلى وطنه الأصلي الذي هو جنة
الخلد عند رب العالمين ، ومن تخطفته الأهواء والأدواء من بني آدم مادت به إلى
الخسارة الحقيقية ، وحرم الرجوع إلى جنان الخلد التي أخرج منها أبونا آدم عليه
السلام .
قال رسولنا صلى الله عليه وسلم :
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ
وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى
عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا
بِالتَّقْوَى )
حديث صحيح ، رواه أحمد في مسنده (23489 ـ الرسالة ) .
من هنا تبدأ علاقتنا بك ، ومن هذه الفلسفة يطالب المسلم بالنظر إلى جميع الخلق ،
أنهم سبي أعدائهم من نوازع النفس والشيطان ، ولا بد من إعانتهم جميعا على تجاوز هذه
القيود إلى حرية العلاقة بالله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ؛ الذي لم يلد ولم يولد
، ولم يكن له كفوا أحد ؛ وتلك رسالة أنبيائه المكرمين جميعا .
وهكذا كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، تذرف منه الدموع ، ويتفطر منه القلب ،
وتتقطع نفسه رحمة وأسفا على من لم يؤمن به ، ولم يلحق بركبه الذي سيعيده إلى داره
الأولى التي خلق لها وأخرج منها ، التي هي الجنة ، وقد استحقت تلك الشفقة العظيمة
التي جوت قلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجلها الله عز وجل في القرآن الكريم ،
فقال مخاطبا له ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ
يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ) الكهف/6، أي : " مهلك نفسك بحزنك عليهم "
ينظر " تفسير القرآن العظيم " (5/137)
نحن لا نبغضك لشخصك ، إذ كيف نبغضك ونحن لا نعرفك ولم نلتق بك ، نحن لم ننفر يوما
من لونك ، ولا جنسك ، ولا عائلتك ؛ نحن محرم علينا ذلك كله : أن نحب الناس أو
نبغضهم لأجل ألوانهم ، أو أنسابهم ، أو آبائهم ، أو أمهاتهم ؛ إنما بغضنا وعداوتنا
للكفر والإلحاد الذي تحمله في قلبك ، ويوشك أن يهلكك ، ويودي بك في عذاب الله
الأبدي ، ويجلب عليك شقاء الدنيا والآخرة ؛ كم نحن مشفقون عليك من هذا الشقاء ،
ساعون في إزالته عنك ، فليت أننا استطعنا ذلك !!
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ
عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ :
مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ !!
أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ ؛ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ !!
لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ
جَهَنَّمَ ؛ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجِعْلَانِ الَّتِي
تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ ) .
حديث صحيح ، رواه أبو داود (5116) وغيره .
إننا نظنك توافقنا الرأي : أن من حق جميع البشر أن يعتقدوا بحب أو ببغض أي فكر أو
معتقد ، فذلك من مقتضيات الحريات التي تكفلها الدساتير الحديثة اليوم ، ولكن ليس من
حق أي بشر أن يعامل مَن يخالفه في المعتقد بالظلم والأذى والخيانة ، والسعي في نزول
الضر والشر به ، لمجرد اختلافهما في شأن المعتقد .
لو كنت تعيش بين مسلمين يلتزمون بحقيقة الإسلام لعشت حياة طيبة سعيدة ، ونلت حقوقا
قدمتها شريعة الإسلام قبل ألف وأربعمائة سنة ، لا تضاهيها الحقوق التي تقدمها
المدنيات الحديثة ، وقد كانت الأرض يومئذ تموج بالظلم والطغيان وإلغاء كرامة
الإنسان ، وأول هذه الحقوق حق تدينك بالمعتقد الذي تراه ، كما ذهب إليه كثير من
الفقهاء والعلماء ، قال ابن العربي رحمه الله : " قال سائر علمائنا : تؤخذ الجزية
من كل كافر ، وهو الصحيح " انتهى. " أحكام القرآن " (1/156) ونحوه في " تفسير
القرطبي " (8/110)، وقال ابن القيم : " وهذا القول أصح في الدليل " انتهى. "زاد
المعاد" (5/92). وإذا كان معتقدك هو اليهودية أو النصرانية أو المجوسية فلك الحرية
الكاملة باتفاق الفقهاء ، فقد قال تعالى : ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ )
البقرة/256.
لو عشت بين المسلمين حقا لأمنت على نفسك من أي أذى تحت أي ذريعة ، فقد قال نبي
الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ
رَائِحَةَ الجَنَّةِ ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ
عَامًا ) رواه البخاري (رقم/6914)
ولو عشت بين المسلمين حقا لأمنت على جميع أموالك من أي تعد ، فقد تبرأ نبي الإسلام
محمد صلى الله عليه وسلم ممن اعتدى على مال غير المسلمين وقال : ( أَمَّا المَالَ
فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ ) رواه البخاري (رقم/2731)
ولو عشت بين المسلمين وأصابك مرض أو ضر أو ابتلاء لتسارعوا إلى زيارتك والوقوف
بجانبك رجاء ثواب الله عز وجل ؛ إنهم لن يزالوا طامعين في نجاتك من النار ، حتى
وأنت على فراش الموت ؛ إنك ـ حينئذ ـ لن تملك لهم ضرا ولا نفعا ، ولا خفضا ولا رفعا
، هذا لو قدرنا أن أحدا يملكه في قوته وسلطانه ، إنهم لا يرجون منك في مثل تلك
الحال ، إلا ما كانوا يرجونه لك ، وأنت على ما أنت عليه الآن : أن ينقذك الله من
النار :
ألم تسمع بخبر نبينا محمد ، صلى الله عليه وسلم ؛ لقد كان له غلام يهودي ، يخدمه
ويحسن صحبته ( فَمَرِضَ ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَعُودُهُ ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ ، فَقَالَ لَهُ : أَسْلِمْ ، فَنَظَرَ إِلَى
أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ ، فَقَالَ لَهُ : أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَسْلَمَ ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ : الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ )
رواه البخاري (رقم/1356)
ولو كنت تعيش بين المسلمين حقا لفرض لك
المجتمع نفقة شهرية تعينك على تكاليف الحياة ، ففي عقد الذمة الذي كتبه خالد بن
الوليد لأهل الحيرة بالعراق , وكانوا من النصارى : " وجعلت لهم : أيما شيخ ضعف عن
العمل , أو أصابته آفة من الآفات , أو كان غنيًا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه
, طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله " انتهى من "الخراج " لأبي يوسف
(ص144)
إن عنوان رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وباختصار شديد : أنه رحمه .
قال الله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )
الأنبياء/107. والله أعلم.
وقال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن
نفسه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ ) .
رواه الدارمي (15) وصححه الألباني .
ولو رحنا نسوق نماذج التسامح الإسلامي
عبر تاريخ الدولة الإسلامية لاستغرق ذلك عشرات الصفحات ، فإن أردت التوسع بالقراءة
والمطالعة يمكنك مراجعة كتاب الأستاذ الدكتور عمر بن عبدالعزيز بعنوان " سماحة
الإسلام "، طباعة المكتبة الذهبية ، ومكتبة الأديب .
نسأل الله جل جلاله أن يهدي قلبك ،
ويشرح صدرك ، ويأخذ بناصيتك إليه .