الحمد لله.
الحارث المحاسبي رحمه الله
هو أبو عبد الله الحارث بن أسد البغدادي المحاسبي صاحب التصانيف الزهدية .
كان زاهدا ورعا ناسكا شديد التقشف ، روى الحديث عن يزيد بن هارون وغيره ، وروى عنه
أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي ، وأحمد بن القاسم بن نصر الفرائضي ، وغيرهما .
له مصنفات في أصول الديانات ، وكتب في الزهد ، والرقائق ، وكتب في الرد على
المخالفين من المعتزلة والرافضة ، لكنه تكلم في شأنه وشأن مصنفاته بأمرين اقتضيا -
عند من تكلم فيه - ألا يُعتنى بكتبه :
الأمر الأول :
بدع الكُلاَّبية ( وهم أسلاف الأشعرية ) التي وقع فيها ، من التزام بعض أصولهم
البدعية ، وما اقتضاه ذلك من إنكار بعض صفات الله الخبرية ، وأفعاله الاختيارية ،
فإنكار البعض ، هو الذي جرأ الجهمية على إنكار باقي الصفات ، وهو الذي جرأ غيرهم
على إنكار الأسماء ، وهلم جرا ، فالقول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر ؛ فمن
أثبت شيئا منها ، لزمه طرد الباب بإثبات الجميع ، ومن أنكر شيئا منها ، لزمه إنكار
الجميع .
الأمر الثاني :
ما كثر في مصنفاته من التدقيق في باب الخطرات والوساوس ، على خلاف ما كان عليه
السلف الصالح والصدر الأول ، وما يقتضيه يسر الشريعة وسماحتها .
قال الذهبي في ترجمته من
"الميزان" (1/430-431) :
" صدوق في نفسه ، وقد نقموا عليه بعض تصوفه وتصانيفه .
قال الحافظ سعيد بن عمرو البردعى : شهدت أبا زرعة - وقد سئل عن الحارث المحاسبى
وكتبه - فقال للسائل : إياك وهذه الكتب ، هذه كتب بدع وضلالات ، عليك بالأثر ، فإنك
تجد فيه ما يغنيك .
قيل له : في هذه الكتب عبرة .
فقال : من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة ، بلغكم أن سفيان
ومالكا والأوزاعي صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس ؟! ما أسرع الناس إلى البدع
! " انتهى.
وقد اشتهر بين أهل العلم أن
الإمام أحمد رحمه الله هجر الحارث المحاسبي حتى مات ، وكان ينهى عن مجالسته والنظر
في كتبه .
قال الخطيب البغدادي :
" وكان أحمد بن حنبل يكره لحارث نظره في الكلام، وتصانيفه الكتب فيه، ويصد الناس
عنه. " .
"تاريخ بغداد" (8 /210) .
وكان الإمام أحمد يكره أن
يصحبه أهل الحديث لما هو وأصحابه عليه من المبالغة في الزهد والتقشف التي لم يأت
بها الشرع ، ولما دخل فيه من الكلام ، قال ابن كثير :
" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يحْتمِلُ أَنَّهُ كَرِهَ لَهُ صُحْبَتَهُمْ لِأَنَّ
الْحَارِثَ بْنَ أَسَدٍ ، وَإِنْ كان زاهدا، فإنه كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ
عِلْمِ الْكَلَامِ ، وَكَانَ أَحْمَدُ يَكْرَهُ ذَلِكَ ، أَوْ كَرِهَ لَهُ
صُحْبَتَهُمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا يُطِيقُ سُلُوكَ طَرِيقَتِهِمْ وَمَا هُمْ
عَلَيْهِ مِنَ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ .
قُلْتُ – يعني ابن كثير - : بل إنما كره ذلك لأن في كلامهم من التقشف وشدة السلوك
التي لم يرد بها الشرع والتدقيق والمحاسبة الدقيقة البليغة ما لم يأت بها أَمْرٌ،
وَلِهَذَا لَمَّا وَقَفَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ على كتاب الحارث الْمُسَمَّى
بِالرِّعَايَةِ قَالَ : هَذَا بِدْعَةٌ " .
انتهى من "البداية والنهاية" (10/ 330)
وقال الغزالي في "الإحياء" (1/95) : " قال أحمد بن حنبل لا يفلح صاحب الكلام أبدا ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل ، وبالغ – يعني الإمام أحمد - في ذمه حتى هجر الحارث المحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتابا في الرد على المبتدعة وقال له : ويحك ألست تحكي بدعتهم أولا ثم ترد عليهم ؟! ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر في تلك الشبهات فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث ؟! " انتهى .
لكن شيخ الإسلام ابن تيمية
نفى ذلك ، فقال :
" هجران أحمد للحارث لم يكن لهذا السبب الذي ذكره أبو حامد ، وإنما هجره لأنه كان
على قول ابن كُلّاب الذي وافق المعتزلة على صحة طريق الحركات ، وصحة طريق التركيب ،
ولم يوافقهم على نفي الصفات مطلقا ، بل كان هو وأصحابه يثبتون أن الله فوق الخلق
عال على العالم موصوف بالصفات ويقررون ذلك بالعقل ، وإن كان مضمون مذهبه نفي ما
يقوم بذات الله تعالى من الأفعال وغيرها مما يتعلق بمشيئته واختياره ، وعلى ذلك بنى
كلامه في مسألة القرآن .
وهذا هو المعروف عند من له خبرة بكلام أحمد من أصحابه وغيرهم من علماء أهل الحديث
والسنة .
وقد ذكر ذلك أيضا أبو بكر الخلال في كتاب السنة ، وذكر ذلك ابن خزيمة وغيره ممن
يعرف حقيقة هذه الأمور ، وكذلك السري السقطي كان يحذر الجنيد بن محمد من شقاشق
الحارث ، ثم ذكر غير واحد أن الحارث رجع عن ذلك ، كما ذكره معمر بن زياد في أخبار
شيوخ أهل المعرفة والتصوف ، وذكر أبو بكر الكلاباذي في كتاب التعرف لمذاهب التصوف
عن الحارث المحاسبي أنه كان يقول : إن الله يتكلم بصوت . وهذا يناقض قول ابن كلاب "
.
انتهى من "درء تعارض العقل والنقل" (3 /370) .
وقال الذهبي في "السير" (9/
488):
" المُحَاسِبِيُّ كَبِيْرُ القَدْرِ، وَقَدْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ يَسِيْرٍ من الكلام
، فَنُقِمَ عَلَيْهِ. وَوَرَدَ: أَنَّ الإِمَامَ أَحْمَدَ أَثْنَى عَلَى حَالِ
الحَارِثِ مِنْ وَجْهٍ ، وَحَذَّرَ مِنْهُ .....
قَالَ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ: تَفَقَّهَ الحَارِثُ ، وَكَتَبَ الحَدِيْثَ ، وَعَرَفَ
مَذَاهِبَ النُّسَّاكِ، وَكَانَ مِنَ العِلْمِ بِمَوْضِعٍ إِلاَّ أَنَّهُ تَكَلَّمَ
فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ وَمَسْأَلَةِ الإِيْمَانِ . وَقِيْلَ: هَجَرَهُ أَحْمَدُ،
فَاخْتَفَى مُدَّةً " انتهى .
وقال ابن الجوزي رحمه الله :
" ذكر أَبُو بَكْر الخلال فِي كتاب السنة عَن أحمد بْن حنبل أنه قَالَ : حذروا من
الحارث أشد التحذير ، الحارث أصل البلية - يعني فِي حوادث كلام جهم - ذاك جالسه
فلان وفلان وأخرجهم إِلَى رأى جهم ، مَا زال مأوى أصحاب الكلام ، حارث بمنزلة الأسد
المرابط ! انظر أي يوم يثب على الناس .
قال ابن الجوزي : وَقَدْ كان أوائل الصوفية يقرون بأن التعويل عَلَى الْكِتَاب
والسنة وإنما لبس الشَّيْطَان عليهم لقلة علمهم " انتهى من "تلبيس إبليس" (ص 151) .
وينظر أيضا :
"المنتظم" (11/ 309) ، "الفروع" لابن مفلح (3/ 270) .
والحاصل : أن الذي أنكر على
الحارث كان للسببين اللذين ذكرناهما ، لكن ينبغي ـ أيضا ـ مراعاة أمور في تقدير ذلك
:
الأول :
أن ما أخذ عليه ، وأنكر من كلامه ، لم يكن غالبا عليه بحيث يخرجه جملة من جمهور أهل
السنة ، بل إنما أنكر ذلك بحسب حال الأئمة في ذلك الزمان ؛ من ظهور السنة المحضة ،
ووفرة أهلها ، وتقرر منهاجها ، والحذر من البدع ، قليلها وجليلها ؛ ولأجل ذلك وصفه
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بعض كلامه بأنه من السلف وأهل السنة ؛ قال :
" ولهذا كان في كلام السلف كأحمد والحارث المحاسبي وغيرهما اسم العقل يتناول هذه
الغريزة ... " انتهى من "الصفدية" (2/ 257)
الثاني :
أنه قد ذكر عنه توبة في آخر عمره ، وصلاح حال ، كما سبق في كلام شيخ الإسلام ابن
تيمية أن بعض المصنفين في الأخبار ذكر توتبه ورجوعه ؛ وهذا هو الظن بمثله ، إن شاء
الله .
الثالث :
أن طالب العلم ، وصاحب السنة ، لن يعدم في تلك الكتب منفعة وخيرا ، متى ما تنبه إلى
ما فيها من المآخذ ، وانتفع بما فيها من الفوائد ؛ خاصة رسالته النافعة " رسالة
المسترشدين " التي حققها وعلق عليها تعليقات نافعة : الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ،
رحمه الله .
يقول الحارث في كتابه "شرح
المعرفة وبذل النصيحة" (ص70) :
"وأعون الأمور لك علي التقوى لزوم طريق أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم ، وإياك
والمحدثات من الأمور ، والرغبة عن طريقهم ؛ فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
والضلالة وأهلها في النار ، أعاذنا الله تعالي وإياك من النار .
واعلم أنك إذا أخذت طريق أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم ، فقد أخذت بغاية الصدق
، وأفلحت حجتك ، ونلت بغيتك ، فلا تخالفهم في شيء من الأشياء ؛ فإنهم كانوا علي
الحق المبين ، والنور الواضح ، فاتبع سبيلهم ومنهاجهم ، ولا تعرج عنهم فيعرَّج بك ،
ولا تخالفهم فيخالَف بك" انتهى .
راجع لمزيد الفائدة :
"حلية الأولياء" (10 /73) ، "الأنساب" للسمعاني (12/ 104) ، "وفيات الأعيان" (2
/57) .
راجع : "تاريخ بغداد" (8 /211) ، "تهذيب التهذيب" (2/ 135) ، "سير أعلام النبلاء"
(9/488)
والله أعلم .