الحمد لله.
ثانيا :
ثم نزيدك أيضا أن في ثبوتا هذه القصة بحثا ونظرا ، وإن صححها بعض العلماء ، فقد ذهب
كثير من المحدثين إلى أنها لم تقع له عليه الصلاة والسلام ، وإنما وقعت للصحابي
الذي رواها ، فأخطأ الرواة في نسبتها إليه عليه الصلاة والسلام ، وهذا ما يسمى في
علم الحديث بتعليل المرفوع بالموقوف ، وهو باب مهم من أبواب وقوع الخلل في الروايات
والأحاديث . كما جاء في روايات أخرى صحيحة اقتصار الحديث على قوله : ( إِذَا
أَحَدُكُمْ أَعْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ ، فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ ، فَلْيَعْمِدْ
إِلَى امْرَأَتِهِ فَلْيُوَاقِعْهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ )
من غير ذكر الحادثة ، مما يدل على الشك في حصولها .
ونحن نتوسع هنا في تخريج روايات القصة وبيان الحكم عليها ، فنقول : الأحاديث
الواردة في هذا الباب هي :
الحديث الأول :
عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم رَأَى امْرَأَةً ، فَأَتَى امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ وَهْىَ تَمْعَسُ
مَنِيئَةً لَهَا ، فَقَضَى حَاجَتَهُ ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ : (
إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ ، وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ
شَيْطَانٍ ، فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ ، فَإِنَّ
ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ ) .
وقد اختلف الرواة عن أبي الزبير في رواية هذا الحديث على وجهين :
الوجه الأول : منهم من ذكر قصة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم المرأة ، وإتيانه أم
المؤمنين زينب رضي الله عنها على إثرها ، وهم كل من ( حرب بن أبي العالية ، وهشام
الدستوائي ).
أما حديث حرب بن أبي العالية ففي " مسند أحمد " (22/407) ، و" صحيح مسلم " (رقم
1403) .
وأما حديث هشام الدستوائي فأخرجه عبد بن حميد كما في " المنتخب " (رقم/1061) ،
ومسلم في " صحيحه " (1403)، وأبو داود في " السنن " (رقم/2151) ، والترمذي في "
السنن " (رقم/1158) وقال : " حديث جابر حديث حسن صحيح غريب ". والنسائي في " السنن
الكبرى " (8/235) ، وابن حبان في " صحيحه " (12/384) ، ورواه الطبراني في " المعجم
الكبير " (24/50) ، وفي " المعجم الأوسط " (3/34) وقال : " لم يرو هذا الحديث عن
أبي الزبير إلا هشام ، تفرد به مسلم "، والبيهقي في " السنن الكبرى " (7/90) .
الوجه الثاني : لا يشتمل على ذكر القصة ، وإنما فيه الحديث القولي فحسب ، يرويه على
هذا الوجه كل من ( معقل بن عبيد الله الجزري ، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ،
وعبد الله بن لهيعة ، وموسى بن عقبة ) .
حديث عبد الله بن معقل أخرجه مسلم في " صحيحه " (رقم/1403) قال : وحدثني سلمة بن
شبيب ، حدثنا الحسن بن أعين ، حدثنا معقل ، عن أبي الزبير ، قَالَ : قَالَ جَابِرٌ
رضي الله عنه : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (
إِذَا أَحَدُكُمْ أَعْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ ، فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ ،
فَلْيَعْمِدْ إِلَى امْرَأَتِهِ فَلْيُوَاقِعْهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي
نَفْسِهِ ) .
وحديث ابن جريج يرويه ابن حبان في " صحيحه " (12/385) ، والدولابي في " الكنى
والأسماء " (3/1192) .
وأما حديث عبد الله بن لهيعة وموسى بن عقبة ففي " مسند أحمد " (23/77) (23/402)،
والخرائطي في " اعتلال القلوب " (1/124) .
ومنهم من يذكر لفظ : ( إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ
وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ ) ، وهم ( هشام الدستوائي , وحرب بن أبي العالية
) ، والبقية يقتصرون على قوله : ( إِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَلْيَأْتِ
أَهْلَهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ ) .
وبهذا يتبين الحكم على الحديث ، وأن الألفاظ التي هي محل إشكال فيها قدر كبير من
الاختلاف بين الرواة ، وهي قصة إتيان النبي صلى الله عليه وسلم زوجته بعد رؤيته
إحدى النساء ، والإخبار عن المرأة أنها : ( تقبل في صورة شيطان ) ، فقد روى هذا
الحديث ستة من تلاميذ أبي الزبير ، أربعة منهم جاؤوا بالرواية من غير العبارات محل
الإشكال ، واثنان فقط أحدهما ضعيف – وهو حرب بن أبي العالية – ذكروا تلك الألفاظ .
وهذا أدعى للشك في تلك القصة ، ووقوع الخلل فيها .
ويمكن أن يزيد الشك أيضا علتان أخريان :
العلة الأولى : الشبهة في انقطاع رواية أبي الزبير عن جابر ؛ فقد قال الإمام الذهبي
رحمه الله:
" في صحيح مسلم عدة أحاديث مما لم يوضِّح فيها أبو الزبير السماعَ عن جابر ، وهي من
غير طريق الليث عنه ، ففي القلب منها شيء ، من ذلك حديث : ( رأى عليه الصلاة
والسلام امرأةً فأعجبته ، فأتى أهله زينب ) " انتهى من " ميزان الاعتدال " (6 /335)
.
العلة الثانية : الإرسال ، فقد رواه بعض تلاميذ أبي الزبير عنه مرفوعا ، من غير
واسطة الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، والحديث المرسل ضعيف ؛ لأن
الجهل بالواسطة يوقع الشك في الثقة بالرواية .
يقول الإمام النسائي رحمه الله : " أخبرنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا حرب ، عن أبي
الزبير ، قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا ، فمرت به امرأة فأعجبته ...
نحوه إلى : صورة شيطان ) ولم يذكر ما بعده ، هذا كأنه أولى بالصواب من الذي قبله "
انظر " السنن الكبرى " (8/235)
لذلك قال الإمام الذهبي رحمه الله – بعد أن سرد هذا الحديث وغيره -:
" هذه غرائب ، وهي في صحيح مسلم " انتهى من " سير أعلام النبلاء " (5/385) .
الحديث الثاني :
عَنْ مُعَاوية بن صَالِح عَن أَزْهَرَ بْنِ سَعِيدٍ الْحَرَازِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ
أَبَا كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيَّ قَالَ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي أَصْحَابِهِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ وَقَدْ
اغْتَسَلَ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كَانَ شَيْءٌ ، قَالَ : ( أَجَلْ ،
مَرَّتْ بِي فُلَانَةُ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي شَهْوَةُ النِّسَاءِ فَأَتَيْتُ بَعْضَ
أَزْوَاجِي فَأَصَبْتُهَا ، فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا ، فَإِنَّهُ مِن أَمَاثِلِ
أَعْمَالِكُمْ إِتْيَانُ الْحَلَالِ ) .
رواه الإمام أحمد في " المسند " (29/557)، والطبراني في " الأوسط " (4/159) وقال : " لا يروى هذا الحديث عن أبي كبشة إلاّ بهذا الإسناد ، تفرد به معاوية بن صالح ".
وهو إسناد ضعيف بسبب أزهر بن سعيد الحرازي ، ترجمته في " تهذيب التهذيب "
(1/203)، وفي " الطبقات الكبرى " (7/460) ، وفي " تاريخ الإسلام " (3/370) وليس
فيها أي نقل عن توثيق أو تجريح ، فهو مجهول الحال . ووصفه ابن سعد بقوله : " كان
قليل الحديث ".
وأما معاوية بن صالح ، فهو وإن حسَّن حديثَه بعض أهل العلم ، إلا أنه قد ضعفه
الكبار من أهل الجرح والتعديل أمثال : يحيى بن سعيد القطان ، وأبو حاتم الرازي ،
ويحيى بن معين . انظر " ميزان الاعتدال " للذهبي (6/456) .
الحديث الثالث :
رواه كل من ( إسرائيل بن يونس ، وسفيان الثوري )، عَنْ عبد اللَّه بن حلاَّم ، عن
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : ( من رأى منكم امرأة فأعجبته
فليواطئ أهله ، فإن معهن مثل الذي معهن ) .
هكذا رواه سفيان الثوري موقوفا كما في " المصنف " لابن أبي شيبة (4/321) .
ورفعه إسرائيل بن يونس ، فجعله من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر معه
الحادثة السابقة .
ولكن المحدثين قالوا : إن رواية سفيان الثوري أقوى وأثبت ، فهو أوثق من إسرائيل بن
يونس ، وقد جزم بترجيح الموقوف الإمامان : أبو حاتم الرازي كما في " العلل "
(3/673) ، والدارقطني ، كما في " العلل " له (5/197) ، وانظر " تحقيق جزء من علل
ابن أبي حاتم " (2/183-192) .
هذا فضلا عن أن عبد الله بن حلام ، قال عنه الإمام الذهبي في " ميزان الاعتدال في
نقد الرجال " ( 4 / 87 ) : " لا يكاد يُعرف ".
والخلاصة أن الأظهر عدم ثبوت نسبة الحادثة المذكورة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وإخراج الإمام مسلم لها إنما يفيد ثبوت أصل الحديث ، وهو الجزء القولي في الحديث ، ولهذا ذكر الوجه الآخر معها ، كما سبق ، أما تصحيح كامل السياق والسبب الوارد في رواية ( حرب وهشام ) عن أبي الزبير عن جابر ، فليس ذلك بلازم في منهج الإمام والتزامه في صحيحه .
وعلى فرض الصحة والثبوت ، فقد سبق بيان توجيهها الصحيح .
والله أعلم .