الحمد لله.
ثانياً:
ترك المصحف في القذر ، أو تركه ليحترق ، مع القدرة على صيانته من ذلك : محرم ، لا
شك في تحريمه ؛ بل حكمه في ذلك حكم من فعله ؛ لأنه مأمور بصيانته وإكرامه ، ولم
يفعل ، مع القدرة عليه .
جاء في "شرح الدردير على مختصر خليل" :
" (بَابٌ فِي الرِّدَّةِ وَأَحْكَامِهَا) (الرِّدَّةُ كُفْرُ الْمُسْلِمِ) ...
(بِصَرِيحٍ) مِنْ الْقَوْلِ ... (أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ) ؛ أَيْ : يَقْتَضِي
الْكُفْرَ وَيَسْتَلْزِمُهُ اسْتِلْزَامًا بَيِّنًا ؛ (كَإِلْقَاءِ مُصْحَفٍ
بِقَذَرٍ) ، وَلَوْ طَاهِرًا كَبُصَاقٍ أَوْ تَلْطِيخِهِ بِهِ ...
وَمِثْلُ ذَلِكَ تَرْكُهُ بِهِ ؛ أَيْ : عَدَمُ رَفْعِهِ إنْ وَجَدَهُ بِهِ ؛
لِأَنَّ الدَّوَامَ كَالِابْتِدَاءِ ، فَأَرَادَ بِالْفِعْلِ مَا يَشْمَلُ
التَّرْكَ .. " .
" وَمِثْلُ هَذَا مَنْ رَأَى وَرَقَةٌ مَكْتُوبَةٌ مَطْرُوحَةٌ فِي الطَّرِيقِ
وَلَمْ يَعْلَمْ مَا كُتِبَ فِيهَا فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَرْكُهَا
مَطْرُوحَةً فِي الطَّرِيقِ لِتُوطَأَ بِالْأَقْدَامِ ، وَأَمَّا إنْ عَلِمَ أَنَّ
فِيهَا آيَةً أَوْ حَدِيثًا وَتَرَكَهَا كَانَ ذَلِكَ رِدَّةً " .
وقال الدسوقي في حاشيته على الموضع السابق :
" أَيْ مِثْلِ إلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَذَرِ فِي كَوْنِهِ رِدَّةً تَرَكَهُ
أَيْ الْمُصْحَفَ بِهِ أَيْ بِالْقَذَرِ (قَوْلُهُ : إنْ وَجَدَهُ بِهِ) أَيْ
وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ وَلَوْ عَلَى الْجُنُبِ رَفْعُهُ مِنْهُ " .
انتهى من "الدردير وحاشية الدسوقي" (4/301) .
وقال الشيخ عليش ـ في كتابة البسملة على الأرض ، للتعليم : " وَلِأَنَّهُ
يُؤَدِّي لِنِسْيَانِهِ فَيُوطَأُ بِالْأَقْدَامِ وَالنِّعَالِ وَتُلْقَى عَلَيْهِ
النَّجَاسَةُ وَالْقَذَرُ وَلِكِتَابَةِ الصِّبْيَانِ ذَلِكَ عَلَى الْأَرْضِ
النَّجِسَةِ وَتَرْكِهِ فَيُوطَأُ وَوَسِيلَةُ الْحَرَامِ مُحَرَّمَةٌ " (5/295)
شاملة .
ثالثا :
إذا ظهر من حال هذا التارك عدم قصد الامتهان والاستخفاف بالمصحف ، إنما فعله لغرض
آخر ، كالذي ذكر في السؤال من قصده الكيد لغيره ، أو الانتقام منه ؛ فمع تحريم حرق
المصحف ، إلا لمن قصد صونه عن الامتهان ، فإن من فعل ذلك لا يكفر به .
قال الدردير ، بعد الموضع السابق :
" وَحَرْقُ مَا ذُكِرَ إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ
كَانَ عَلَى وَجْهِ صِيَانَتِهِ فَلَا ضَرَرَ بَلْ رُبَّمَا وَجَبَ وَكَذَا كُتُبُ
الْفِقْهِ إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ بِالشَّرِيعَةِ فَكَذَلِكَ
وَإِلَّا فَلَا " .
وجاء في "الموسوعة الفقهية" (2/ 123) :
" قَال الشَّافِعِيَّةُ: الْخَشَبَةُ الْمَنْقُوشُ عَلَيْهَا قُرْآنٌ فِي حَرْقِهَا
أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : يُكْرَهُ حَرْقُهَا لِحَاجَةِ الطَّبْخِ مَثَلاً ، وَإِنْ
قُصِدَ بِحَرْقِهَا إِحْرَازُهَا لَمْ يُكْرَهْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَرْقُ
لِحَاجَةٍ ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ عَبَثًا فَيَحْرُمُ ، وَإِنْ قَصَدَ الاِمْتِهَانَ
فَظَاهِرٌ أَنَّهُ يَكْفُرُ " انتهى .
والخلاصة : أن الظاهر من حال هذا الذي ترك المصحف ليحترق ، ويظهر شناعة فعل هذا المعتدي ، الظاهر من حاله أنه لا يكفر بمجرد ذلك ، وإن كان وقع في أمر محرم منكر .
والله تعالى أعلم .