الحمد لله.
وقد ذكر هؤلاء الكذبة من
جملة افتراءاتهم أن معاوية رضي الله عنه لما أخذ البيعة لابنه يزيد ، قالت له عائشة
مستنكرة فعله : هل استدعى الشيوخ لبنيهم البيعة ؟ فقال: لا ، قالت: فبمن تقتدي ؟
فخجل ، وهيأ لها حفرة فوقعت فيها وماتت .
"الصراط المستقيم" (3 / باب 12 / 45) .
وهذا باطل محال من عدة أوجه
:
أولا : أن عائشة رضي الله عنها توفيت وفاة طبيعية ولم تُقتل ، رضي الله عنها ، وهذا
بإجماع أهل العلم .
وقال القاسم بن محمد: " اشتكت عائشة ، فجاء ابن عباس فقال: يا أم المؤمنين تقدمين
على فَرَط صدق ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى أبي بكر رضي الله عنه " .
انتهى من " تاريخ الإسلام" (4 /249) .
وراجع "التهذيب" (12/386) ، "السير" (2/192) ، "الطبقات الكبرى" (8/78) .
ثانيا :
العلاقة التي كانت بين معاوية وعائشة رضي الله عنهما كانت علاقة حسنة ، موصوفة
بالودّ والوصل والبر ومعرفة حق أم المؤمنين .
فكان يزورها ويصلها ويدخل عليها ويحادثها ويستنصحها ، ولم يزل معها على حسن العهد
حتى ماتت رضي الله عنها .
روى الترمذي في سننه (2414) : " أن مُعَاوِيَة كتَب إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَنْ اكْتُبِي إِلَيَّ كِتَابًا تُوصِينِي
فِيهِ وَلَا تُكْثِرِي عَلَيَّ ، فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
إِلَى مُعَاوِيَةَ : سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ : فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( مَنْ الْتَمَسَ رِضَا
اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ ، وَمَنْ الْتَمَسَ
رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ ) وَالسَّلَامُ
عَلَيْكَ ، وصححه الألباني في " صحيح الجامع " (2024) .
وروى الحاكم (6745) عن هشام
بن عروة عن أبيه : " أن معاوية بن أبي سفيان بعث إلى عائشة رضي الله عنها بمائة ألف
فقسمتها حتى لم تترك منها شيئا ، فقالت بريرة : أنت صائمة فهلا ابتعت لنا بدرهم
لحما ، فقالت عائشة : لو أني ذكرت لفعلت ".
صححه الذهبي في "السير" (2/186) .
وعن عطاء : " أن معاوية بعث إلى عائشة بقلادة بمئة ألف ، فقسمتها بين أمهات
المؤمنين ".
انتهى من "السير" (2/187) .
وقال سعيد بن عبد العزيز : " قضى معاوية عن عائشة ثمانية عشر ألف دينار " .
انتهى من "تاريخ الإسلام" (4 /248) .
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ : " أَهْدَى مُعَاوِيَةُ
لِعَائِشَةَ ثِيَابًا وَوَرِقًا وَأَشْيَاءَ تُوضَعُ فِي أُسْطُوَانِهَا ، فَلَمَّا
خَرَجَتْ عَائِشَةُ نَظَرَتْ إِلَيْهِ فَبَكَتْ ثُمَّ قَالَتْ : لَكِنَّ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَجِدُ هَذَا . ثُمَّ
فَرَّقَتْهُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ " .
انتهى من "حلية الأولياء" (2/ 48) .
وروى علقمة بن أبي علقمة ، عن أمه قالت : " قدم معاوية المدينة ، فأرسل إلى عائشة :
أرسلي إلي بأنبجانية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشعره ، فأرسلت بذلك معي أحمله ،
فأخذ الأنبجانية ، فلبسها، وغسل الشعر بماء ، فشرب منه ، وأفاض على جلده " .
انتهى من "تاريخ الإسلام" (4 /311) .
ثالثا :
المعروف عن ابن خلدون رحمه الله أنه يجلّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يقع
في أحد منهم ، ويردّ ما حصل من اختلافهم واقتتالهم إلى محض الاجتهاد الذي يثابون
عليه ، وكل منهم يريد في ذلك إظهار الحق ، ولا يجوز عنده لأحد أن يخوض فيهم بالباطل
لأجل ما حصل من الفتنة ، فقال رحمه الله :
" هذا هو الذي ينبغي أن تحمل عليه أفعال السلف من الصحابة والتابعين ، فهم خيار
الأمة ، وإذا جعلناهم عرضة للقدح فمن الذي يختص بالعدالة ، والنبي صلى الله عليه
وسلم يقول: ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم - مرتين أو ثلاثاً - ثم يفشو الكذب
) .
فجعل الخيرة ، وهي العدالة مختصة بالقرن الأول والذي يليه ، فإياك أن تعود نفسك أو
لسانك التعرض لأحد منهم ، ولا تشوش قلبك بالريب في شيء مما وقع منهم ، والتمس لهم
مذاهب الحق وطرقه ما استطعت ؛ فهم أولى الناس بذلك ، وما اختلفوا إلا عن بينة ، وما
قاتلوا أو قتلوا إلا في سبيل جهاد أو إظهار حق ، واعتقد مع ذلك أن اختلافهم رحمة
لمن بعدهم من الأمة ، ليقتدي كل واحد بمن يختاره منهم ، ويجعله إمامه وهاديه ودليله
، فافهم ذلك ، وتبين حكمة الله في خلقه وأكوانه ، واعلم أنه على كل شيء قدير وإليه
الملجأ والمصير " .
انتهى من "تاريخ ابن خلدون" (1/218) .
وقال رحمه الله :
" كثيرا ما يوجد في كلام المؤرخين أخبار فيها مطاعن وشبه في حقهم – يعني الصحابة -
أكثرها من أهل الأهواء ، فلا ينبغي أن تسود بها الصحف " .
انتهى من "تاريخ ابن خلدون" (2/188) .
وقد كان ابن خلدون من أكثر الناس تبجيلا وتوقيرا وتعظيما لمعاوية رضي الله عنه .
قال في تاريخه (2/188) :
" وقد كان ينبغي أن تلحق دولة معاوية وأخباره بدول الخلفاء وأخبارهم ؛ فهو تاليهم
في الفضل والعدالة والصحبة ... والحق أن معاوية في عداد الخلفاء ، وإنما أخره
المؤرخون في التأليف عنهم لأمرين : الأول : أن الخلافة لعهده كانت مغالبة لأجل ما
قدمناه من العصبية التي حدثت لعصره ، وأما قبل ذلك كانت اختيارا واجتماعا ، فميزوا
بين الحالتين ، فكان معاوية أول خلفاء المغالبة والعصبية الذين يعبر عنهم أهل
الأهواء بالملوك ، ويشبهون بعضهم ببعض ، وحاشا لله أن يشبه معاوية بأحد ممن بعده
... " انتهى من "تاريخ ابن خلدون" (2 /188) .
وقال رحمه الله :
" والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه ، إنما هو مراعاة المصلحة
في اجتماع الناس ، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية ،
إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم ، وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع ، وأهل الغلب
منهم ، فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول
حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع ، وإن كان لا يظن
بمعاوية غير هذا ، فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك .
وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه ، فليسوا ممن
يأخذهم في الحق هوادة ، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق ، فإنهم كلهم أجل
من ذلك، وعدالتهم مانعة منه " انتهى من "تاريخ ابن خلدون" (1/211) .
فالذي يدعي أن معاوية قتل أم
المؤمنين عائشة رضي الله عنهما ، وأن ابن خلدون ذكر ذلك في كتبه : هو من أكذب الناس
.
راجع للفائدة إجابة السؤال رقم (147974)
.
والله أعلم .