الحمد لله.
لكن المرأة قد تُعذر في بعض تقصيرها ، أو شيء من نشوزها إذا كانت مغلوبة على ذلك بأثر سحر أو مرض ، أو نحو ذلك ؛ فلا تأثم بما غلبت عليه ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، وإن كان هذا لا يعني سقوط حق الزوج في الطاعة ، أو حقوقه عليها بصفة عامة .
ثانيا :
وأما قول الزوجة : " ربما يفضل بي الخلع " فهذا إخبار ؛ بأن الخلع هو الأنسب للخلاص
من الخلافات لا أنها أوجبته .
ولو سلمنا أنها طلبت الخلع بلفظه الصريح ، إلا أن الزوج لم يجبها بالقبول في المجلس
لم يصح الخلع ؛ لأن شروط صحة الخلع عند الأئمة الأربعة اتحاد المجلس، فإن تراخى عنه
لم يصح الخلع .
جاء في " الموسوعة الفقهية " (1/209) : " المذاهب الأربعة على أن الزوج لو خالع
امرأته ، فإن القبول يقتصر على المجلس .. " انتهى .
وقد ذكر الدكتور وهبة الزحيلي ـ وفقه الله ـ أركان الخلع عند الجمهور العلماء التي
لا يصح الخلع إلا بها فقال:
الأول: أن يصدر الإيجاب من الزوج أو وكيله ، أو وليه إن كان صغيراً أو سفيهاً غير
رشيد .
الثاني : أن يكون ملك المتعة قائماً حتى يمكن إزالته ، وذلك بقيام الزوجية حقيقة ،
أو حكماً كما هو حال المطلقة رجعياً ولا تزال في العدة ..
الثالث : البدل من جانب الزوجة أو غيرها ..
الرابع : الصيغة : وهي لفظ الخلع أو ما في معناه مما ذكر كالإبراء والمبارأة
والفداء والافتداء، سواء أكان صريحاً أم كناية ، فلا بد من صيغة معينة ومن لفظ
الزوج ، ولا يحصل بمجرد بذل المال ؛ لأن الخلع الشرعي له آثار تختلف عن آثار الطلاق
على مال ، ولأنه تصرف في البضع ( الاستمتاع بالمرأة ) بعوض ، فلم يصح بدون اللفظ
كالنكاح والطلاق .
الخامس : قبول الزوجة : لأن الخلع من جانبها معاوضة ، وكل معاوضة يلزم فيها قبول
دافع العوض ، ويلزم تحقق القبول في مجلس الإيجاب أو مجلس العلم به ، فإذا قامت
الزوجة من المجلس بعد سماع كلمة المخالعة ، أو بعد ما علمت بها من طريق الكتابة ،
فلا يصح قبولها بعدئذ .
ويشترط توافق القبول والإيجاب ، فإن قال الزوج : طلقتك بألف ، فقالت: بثمانمائة ،
أو قال: طلقتك ثلاثاً بألف، فقبلت طلقة واحدة بثلث ألف، لم ينعقد الخلع ويعد لغواً
، وكذا يعد لغواً عند الشافعية : إن قال: طلقتك بألف، فقالت: قبلت بألفين؛ لأنه
يشترط عنده التطابق أو التوافق التام بين الإيجاب والقبول.
.. وقد اعتبر الحنفية ركن الخلع هو الإيجاب والقبول ؛ لأنه عقد على الطلاق بعوض،
فلا تقع الفرقة ولا يستحق العوض بدون القبول " انتهى من " الفقه الإسلامي وأدلته
"(9/457) .
وبناء على ما سبق : فإن ما ادعاه الزوج من الخلع غير صحيح ؛ وعليه أن يتقي الله
تعالى في زوجته وأن يرد عليها وديعتها ؛ لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ..) سورة النساء/29
.
وليعلم أن أكل أموال الناس بالباطل كبيرة من كبائر الذنوب توجب سخط الله ومقته ،
فحري بالمسلم أن يتجنب ما يسخط الله عنه .
وقد أمر الله عباده أن يؤدوا الأمانات إلى أصحابها ؛ فقال : ( إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ
بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ
بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) النساء/58 .
ونهى عن تضييعها وخيانتها ، فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا
اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) الأنفال
/27 .
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن خيانة الأمانة هي من صفات النفاق ، التي لا تليق
بمسلم يتقي ربه :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : ( آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ
أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ) رواه البخاري (33) ومسلم (59) .
ثالثا :
إذا أدى الزوج لامرأته أمانته التي أودعتها عنده ، ثم رغب عنها ، ولم يعد يحتمل
العيش معها ؛ فله أن يطلقها ، وقد قال تعالى : ( وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ
اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ) سورة
النساء/130.
وإن كان الأولى والأفضل أن يصبر عليها ويعالجها ، ما دام هو قد علم حالها من أول
الأمر ، ويصدقها فيما تدعيه من أن ذلك خارج عن طوقها ، فليحتسب الأجر عند الله في
الصبر عليها ، والإحسان إليها ؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( خَيْرُكُمْ
خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي ) رواه الترمذي(3895) .
وليس له أن يضيق عليها حتى تفتدي نفسها منه بمالها ، ما دام قد تزوجها وهو على
بينة من مرضها ، ومعرفة بحالها .
وقد قال الله تعالى: ( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ
وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا
أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ
أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا )
النساء/20-21 .
وقال تعالى : ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ
إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) سورة النساء/19 .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : " هذا في الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها
ولها عليه مهر فيضارّها لتفتدي وتردّ إليه ما ساق إليها من المهر، فنهى الله تعالى
عن ذلك ، ثم قال: إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فحينئذ يحل لكم
إضرارهنّ ليفتدين منكم " انتهى من " معالم التنزيل " للإمام البغوي " (2/186) .
قال ابن قدامة رحمه الله : " ومن شرط ثبوت الخيار [ الفسخ ] بهذه العيوب , أن لا
يكون عالماً بها وقت العقد , ولا يرضى بها بعده , فإن علم بها في العقد , أو بعده
فرضي , فلا خيار له . لا نعلم فيه خلافاً ; لأنه رضي به , فأشبه مشتري المعيب "
انتهى من "المغني"(7/143)
وقال أيضاً : " إذا علم بالعيب وقت العقد , أو بعده ثم وجد منه رضا , أو دلالة عليه
, كالدخول بالمرأة , أو تمكينها إياه من الوطء , لم يثبت له الفسخ ; لأنه رضي
بإسقاط حقه فسقط , كما لو علم المشتري بالعيب فرضيه .." انتهى من " المغني "
(7/144).
والله أعلم .