أثر استماع المعازف وشرب النبيذ في حكم رواية الراوي
هل يطعن في الرواة أنهم موسيقارية ويشربون ؟
كما في الأمثلة الآتية :
جاء في " الإرشاد في معرفة علماء الحديث ": يوسف بن يعقوب ، أبو سلمة الماجشون ، ثقة ، سمع الزهري ويحيى بن سعيد وغيرهما ، روى عنه الكبار ، وعمر حتى سمع منه يحيى بن معين ، وعلي بن مسلم الطوسي ، وهو وإخوته يرخصون في السماع ، قال ابن معين : كنا نأتي يوسف الماجشون فيحدثنا في بيت ، وجواريه في بيت يضربن بالمعزفة ، وهو وإخوته وابن عمه يعرفون بذلك ، وهم في الحديث ثقات مخرجون في الصحاح .
عبد العزيز بن سلمة الماجشون ، مفتي أهل المدينة ، سمع الزهري وعبد الله بن دينار ، وروى عنه الأئمة ، مخرج في الصحيحين ، يرى التسميع ويرخص في العود .
والمراد بالتسميع سماع الأغاني من الجواري المملوكة ، روى له البخاري ، ومسلم ، والترمذي والنسائي ، وابن ماجه .
وفي كتاب " المعجم في أسامي شيوخ أبي بكر الإسماعيلي": " أبو الحسن علي بن السراج المصري ببغداد ، وكان مستهترا بالشراب حافظا ، أملى من حفظه ، قال السهمي : سمعت محمد بن مظفر الحافظ يقول : رأيته سكران على ظهر رجل يحمله من ماخور ، قال الدارقطني : صالح ، وقيل إنه ربما تناول الشراب وسكر ، وقال : كان يعرف ويفهم ، ولم يكن بذا ، فإنه كان يشرب المسكر ويسكر ، وقال الخطيب : كان حافظا عارفا بأيام الناس وأحوالهم ، وكذا وصفه الذهبي بالحفظ والإتقان والإمامة ، ثم قال : لكنه كان يشرب المسكر . وقال ابن حجر : وهذا ينبغي احتمال شربه النبيذ المختلف فيه .
واعتذار ابن حجر غير مسلّمٍ به ؛ لأن الحرمة واقعة على كل شراب مسكر ، نبيذ أو غيره ، وهذا كان يحمل على أظهر الرجال لشدة سكره .
وقول الإسماعيلي : هذا دليل واضح على أمانته في الأداء ، واستيفائه لشروطه في مقدمة كتابه ، حيث يذكر شيوخه ، ثم يوضح من ذم طريقه منهم ، لتجنب الرواية عنه.
الجواب
الحمد لله.
أولا :
عدالة الراوي أحد ركني شروط قبول روايته ، إلى جانب الحفظ والضبط ، وقد دل على هذا
الشرط أدلة شرعية كثيرة ، منها قول الله سبحانه وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) الحجرات/6 ، وقول الله عز
وجل : ( وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
) النور/4.
يقول الحافظ ابن الصلاح رحمه الله :
" أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلا ،
ضابطا لما يرويه ، وتفصيله : أن يكون مسلما ، بالغا، عاقلا ، سالما من أسباب الفسق
وخوارم المروءة ، متيقظا غير مغفل ، حافظا إن حدث من حفظه ، ضابطا لكتابه " .
انتهى من " المقدمة في علوم الحديث " (ص/104) .
ولهذا رد العلماء أحاديث بعض الرواة الذين عرفوا بالفسق والمجون وارتكاب كبائر
المنكرات ، قال عباس الدوري : سمعت يحيى بن معين - وذكرت له شيخا كان يلزم ابن
عيينة ، يقال له: ابن مناذر - فقال :
" أعرفه ، وكان صاحب شعر ، ولم يكن من أصحاب الحديث ، زاد ابن حماد : وكان يتعشق بن
عبد الوهاب الثقفي ، وكان يقول فيه شعر ، وكان يشبب بنساء ثقيف ، فطردوه من البصرة
، فخرج إلى مكة . وقالا : وكان يرسل العقارب في المسجد الحرام حتى تلسع الناس ،
وكان يصب المداد بالليل في المواضع التي يتوضأ منها الناس حتى يسود وجوه الناس ،
ليس يروي عنه رجل فيه خير " انتهى من " الكامل في الضعفاء " (7/520) .
ثانيا :
لكن المعصية التي ترفع العدالة وتثبت الجرح : هي القادحة المتفق على كونها معصية ،
وبشرط أن تبلغ حد الكبيرة التي تُرَدُّ بها الشهادة ، ولم تقع بتأويل سائغ .
يقول ابن قدامة رحمه الله :
" ولا يجرحه عن العدالة فعل صغيرة ؛ لقول الله تعالى : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ
كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ) النجم/32. قيل : اللمم صغار
الذنوب . ولأن التحرز منها غير ممكن " .
انتهى من " المغني " (10/148) .
وهكذا فسر الإمام الصنعاني عبارة ابن الصلاح السابقة – في اشتراط سلامة الراوي من
أسباب الفسق – فقال :
" أجمل ابن الصلاح أسباب الفسق ، فبينها المصنف بقوله بارتكاب الكبيرة والإصرار على
الصغيرة " كما في " توضيح الأفكار " (2/86)، وقد توسع الأمير الصنعاني نقلا عن ابن
الوزير في " العواصم من القواصم " في بيان قبول رواية من وقع في المفسق أو المكفر
متأولا .
ينظر " توضيح الأفكار " (2/127-159) .
ويقول الشيخ عبد الله الجديع :
" المعصية القادحة هي المعلومة التي لا تقبل التأويل ، وليس منها الصغائر " انتهى
من " تحرير علوم الحديث " (1/379) ، وانظر (1/236-237) ثم نقل عن يحيى بن معين
تضعيف كل من عمر بن سعد ؛ لأنه قتل الحسين رضي الله عنه ، وتضعيف يعقوب بن حميد بن
كاسب لأنه محدود ، أي أقيم عليه الحد . وكلها مفسقات متفق عليها لا يقبل فيها
التأويل .
ثالثا :
ثم إن وقوع المسلم في السكر من كبائر الذنوب التي يتفق العلماء على أنها تخرم
العدالة ، ولا تقبل معها الشهادة ولا الرواية ، وليست محلا للتأويل ولا للمعذرة .
سئل ابن المبارك عن العدل , فقال : " من كان فيه خمس خصال ، يشهد الجماعة ، ولا
يشرب هذا الشراب ، ولا تكون في دينه خربة ، ولا يكذب ، ولا يكون في عقله شيء " .
انتهى من " الكفاية في علم الرواية " للخطيب البغدادي (ص/79) .
رابعا :
لم نقف على أحد من الرواة الثقات الذين قبِل العلماءُ أحاديثَهم ، وصححوا مروياتهم
: قد ثبت عليه السكر بالشراب المسكر .
وما ورد في السؤال من نقول وأقوال فهمت على غير وجهها ، وتحتاج إلى شيء من البيان :
أما علي بن سراج المصري ، المتوفى سنة (308هـ)، فليس له رواية في الكتب الستة ، ولا
في المسانيد المشهورة المعتبرة ، وإنما له روايات متفرقة في بعض الكتب التاريخية ،
وقد رد النقاد حديثه لأجل ثبوت السكر عليه ، وإن كانوا أقروا بحفظه وإتقانه ، قال
الدارقطني رحمه الله : " كان يعرف ويفهم ، ولم يكن بذاك ؛ فإنه كان يشرب المسكر ،
ويسكر " انتهى من " سؤالات السلمي " (ص/209)، وهذا ليس حكما بقبول حديثه ، بل فيه
جرح ظاهر للراوي ، ولا يعرف للدارقطني تصحيح حديث فيه هذا الراوي .
وأما قول حمزة السهمي : " سمعت محمد بن مظفر الحافظ يقول : رأيت علي بن سراج المصري
سكران على ظهر رجل يحمله من ماخور " انتهى من " سؤالات السهمي " (ص223). فهو يؤكد
ما سبق ، ويؤكد أنه لا يغني الحفظ مع ثبوت السكر على الراوي ؛ لذلك لا يقبل تفرده
بحديث دون غيره من الرواة ، كما قال الحافظ الذهبي رحمه الله : " ضُعِّف لشربه
المسكر " ينظر " ذيل ديوان الضعفاء " (ص/49).
وإن كان قد يستأنس بكلامه في بعض الأمور التاريخية ، كما قال الخطيب البغدادي رحمه
الله : " كان حافظا عارفًا أيام النّاس وأحوالهم " انتهى من " تاريخ بغداد "
(13/385)، وانظر ترجمته في " تاريخ دمشق " (41/507)، لكن ذلك لا يعني أن المحدثين
قبلوا حديثه ، فَفْهم كلام المحدثين يجب أن يكون دقيقا ؛ لأنهم أصحاب مصطلحات دقيقة
وعناية فائقة ، ولم نرَهم قبِلوا حديثَ هذا الراوي في كتب الحديث ، ونقلهم عنه بعض
الأمور التاريخية أو في علم الرجال كان على سبيل الاستئناس ، وليس على سبيل الديانة
، ولهذا لا مانع من وصف الراوي السكير بكونه يحفظ ويفهم ، ولكن العبرة بعد ذلك
بقبول حديثه والأخذ به .
ثم إن الحافظ ابن حجر لم يدافع عن علي بن السراج في كتابه " لسان الميزان "، ولم
يقل : " ينبغي احتمال كونه كان يشرب النبيذ المختلف فيه "، بل قال " هذا ينفي
احتمال كونه كان يشرب النبيذ المختلف فيه "، يريد أن يؤكد أنه كان يسكر تماما فيقع
في المحذور إجماعا ، مستندا إلى الرواية السابقة أنه كان يحمل على ظهور الرجال
لسكره . ولكن وقع تصحيف في الطبعة المتداولة ، فأصل الكلمة ( ينفي ) كما هي في
الطبعة التي بتحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله (5/542)، تصحفت في الطبعة
المتداولة لدائرة المعارف النظامية في الهند (4/231) إلى ( ينبغي )، وبهذا نكون قد
أجبنا على إشكال السائل بحمد الله .
خامسا :
أما إذا كانت المعصية مما يقبل التأويل ، أو كانت محل اختلاف بين الفقهاء والعلماء
، فالصواب الذي عليه جمهور المحدثين هو عدم جرح الراوي بتلك المعصية ، وعذره
لتأويله فيها ، وأخذه بقول المرخِّص من أهل العلم .
ومثال ذلك الترخص في المعازف الذي نقل عن يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة الماجشون ،
المتوفى سنة (185هـ)، قال فيه يحيى بن معين : " كنا نأتي يُوسُف الماجشون
فيُحدِّثنا في بيته وجواريه في بيتٍ آخر له يضربن بمعزفة " انتهى من " التاريخ
الكبير " لابن أبي خيثمة (2/362) وقال الخليلي رحمه الله : " هو وإخوته وابن عمه
يُعرَفون بذلك , وهم في الحديث ثقات مخرجون في الصحاح " انتهى من " الإرشاد "
(1/309) .
وعلق عليه الذهبي رحمه الله بقوله : " أهل المدينة يترخصون في الغناء ، هم معروفون
بالتسمح فيه ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الأنصار يعجبهم اللهو )"
انتهى من " .
سير أعلام النبلاء " (8/372) .
ومع ذلك فقد وثقه ابن معين وأبو داود ، وأخرج حديثَه الشيخان البخاري ومسلم ، ولم
يضعف العلماء حديثه لأجل مذهبه في الغناء .
وهكذا جاء في ترجمة " عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ، مفتي أهل المدينة ، سمع
الزهري ، وعبد الله بن دينار ، وغيرهما ، روى عنه الأئمة ، مخرج في الصحيحين ، يرى
التسميع ، ويرخص في العود " انتهى من " الإرشاد " (1/310).
وفي ترجمة ابنه عالم المدينة ومفتيها ، عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي
سلمة الماجشون ، تلميذ الإمام مالك رحمه الله المتوفى سنة (212هـ) ، قال ابن عبد
البر رحمه الله : " كان فقيها فصيحا ، دارت عليه الفتيا في زمانه إلى موته ، وعلى
أبيه عبد العزيز قبله ، فهو فقيه ابن فقيه ، وكان ضرير البصر ، وقيل إنه عمي في آخر
عمره ، روى عن مالك وعن أبيه ، وكان مولعا بسماع الغناء ارتحالا وغير ارتحال . قال
أحمد بن حنبل : قدم علينا ومعه من يغنيه " انتهى من " الانتقاء في فضائل الثلاثة
الأئمة الفقهاء " (ص/57)، وينظر " سير أعلام النبلاء " (10/359) .
ومع ذلك : فلم يرد النقاد حديثه لأجل مذهبه في سماع المعازف ؛ لأنها من مسائل
الخلاف بين التابعين ، ثم استقر الاتفاق في معتمد مذاهب الفقهاء الأربعة على
التحريم ، لذلك قبلوا بعض مروياته ، وضعفوا أخرى لأجل عدم حفظه وضبطه ، وكثرة
الأخطاء فيها ، قال أبو داود : " كان لا يعقل الحديث " ، وقال أحمد بن حنبل : " من
يأخذ عن عبد الملك ؟! " .
ينظر " تهذيب التهذيب " (6/408) .
ويلحق به أيضا : الرواة الذين يرون شرب بعض أنواع النبيذ على مذهب أهل العراق في
ذلك الزمن ، بحيث لا يبلغ حد الإسكار ، قال يحيى بن معين رحمه الله : " وكيع وابن
نمير كانوا يشربون النبيذ ، وإنما كان نبيذهم يجعلونه في التنور ، يشربونه اليوم
واليومين والثلاثة ويهريقونه ، ولا يشربون كل نبيذ يزداد على الترك جودة ".
انتهى من " كلام يحيى بن معين في الرجال " رواية ابن طهمان (ص/73) .
وقد قال أبو حاتم الرازي رحمه الله : " جاريت أحمد بن حنبل من شرب النبيذ من محدثي
الكوفة ، وسميت له عدداً منهم ، فقال : هذه زلات لهم ، ولا تسقط بزلاتهم عدالتهم "
.
ينظر " الجرح والتعديل " (2/26) .
وقد قال العلامة المعلمي رحمه الله : " على مذهب العراقيين في الترخيص في النبيذ ،
ومثل ذلك لا يجرح به اتفاقاً " انتهى من " التنكيل " (1/439) .
ومن أراد أن يتوسع في معرفة الفرق بين قول الجمهور وقول الحنفية وفقهاء العراق
والكوفة في باب الأشربة ، وتحديد نوع النبيذ الذي اختلفوا في حكمه ، فيمكنه مراجعة
" الموسوعة الفقهية " (5/11-20)، أما السكر بالشراب فمحرم بإجماع العلماء .
وما سبق يبين دقة المحدثين في منهجهم في الحكم على الرواة ، وإقامة موازين الحق
والقسط في قبول المرويات أو رفضها ، وما ذلك إلا بفضل الله أولا ، ثم بفضل جهود
علمية ممتدة عبر قرون الزمان ، بُذلت في سبيلها الدماء والأعمار والأموال .
والله أعلم .