لي صديقة تسب الرجال عموما؛ فمثلا تقول : كل الرجال زبالة ، كل الرجال ... وغيرها من الألفاظ الغير جيدة . فقلت لها : لا يجوز ذلك ؛ ستأخذين ذنب كل رجل سبيتيه بغير وجه حق . قالت : اذكري لي الفتوى أني أتحمل ذنب هؤلاء الرجال ؟ فقلت لها : ذلك من باب أن المسلم لا يسب ولا يلعن ؛ وأيضا الشيخ محمد الشنقيطي قال : إنه لا يجوز أن نسب أو نسخر من قبيلة ، أو دولة ، أو ما شابهها ، لأنه سيأتي يوم القيامة ويحاجك كل شخص من أفراد هذه القبيلة أمام الله .
فهل أنا على صواب فيما أفتيتها به ؟
الحمد لله.
أولا :
ينبغي للمسلم ألا يصاحب إلا التقيّ صاحب الدين والخلق ؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ ) رواه الترمذي (2395) وحسنه الألباني في "صحيح الترمذي" .
ولما رواه أبو داود (4833) عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ( الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ ) .
وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود" وغيره .
قال ابن عبد البر رحمه الله :
" وهذا معناه - والله أعلم - أن المرء يعتاد ما يراه من أفعال من صحبه ، والدين العادة ، فلهذا أمر ألا يصحب إلا من يرى منه ما يحل ويجمل فإن الخير عادة .
والمعنى في ذلك : ألا يخالط الإنسان من يحمله على غير ما يحمد من الأفعال والمذاهب ، وأما من يؤمن منه ذلك فلا حرج في صحبته " انتهى من " بهجة المجالس " ( 2 / 751 ) .
ثانيا :
يحرم سب المسلم بغير وجه حق ، ونص غير واحد من أهل العلم على أنه من كبائر الذنوب ؛ وذلك لما رواه البخاري (48) ومسلم (64) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ ) .
قال الحافظ رحمه الله :
فِي الْحَدِيثِ تَعْظِيمُ حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْحُكْمُ عَلَى مَنْ سَبَّهُ بِغَيْرِ حَقٍّ بِالْفِسْقِ " .
انتهى من" فتح الباري" (1/ 112) .
وروى البخاري (6045) عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالفُسُوقِ، وَلاَ يَرْمِيهِ بِالكُفْرِ، إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ ، إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ ) .
وروى الترمذي (1977) وحسنه عن ابن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ ، وَلَا اللَّعَّانِ ، وَلَا الفَاحِشِ ، وَلَا البَذِيءِ ) وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " .
وروى أحمد (9675) وابن حبان (5764) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : " قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: ( هِيَ فِي النَّارِ ) ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ : ( هِيَ فِي الْجَنَّةِ ) وصححه الألباني في " الصحيحة " (190) .
قال النووي رحمه الله :
" سَبُّ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ، وَفَاعِلُهُ فَاسِقٌ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " انتهى من "شرح مسلم" (2/ 54) .
وقال أبو الحسن الماوردي رحمه الله :
" مَا قَدَحَ فِي الْأَعْرَاضِ مِنْ الْكَلَامِ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا: مَا قَدَحَ فِي عِرْضِ صَاحِبِهِ وَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ إلَى غَيْرِهِ ، وَذَلِكَ شَيْئَانِ : الْكَذِبُ وَفُحْشُ الْقَوْلِ ، وَالثَّانِي : مَا تَجَاوَزَهُ إلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَالسِّعَايَةُ وَالسَّبُّ بِقَذْفٍ أَوْ شَتْمٍ. وَرُبَّمَا كَانَ السَّبُّ أَنْكَاهَا لِلْقُلُوبِ وَأَبْلَغَهَا أَثَرًا فِي النُّفُوسِ ، وَلِذَلِكَ زَجَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْحَدِّ تَغْلِيظًا ، وَبِالتَّفْسِيقِ تَشْدِيدًا وَتَصْعِيبًا. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ : إمَّا انْتِقَامٌ يَصْدُرُ عَنْ سَفَهٍ ، أَوْ بَذَاءٌ يَحْدُثُ عَنْ لُؤْمٍ " انتهى من "أدب الدنيا والدين" (ص: 323-324) .
وجاء في " الموسوعة الفقهية " (24/ 141):
" سَبُّ الْمُسْلِمِ مَعْصِيَةٌ ، وَصَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ ، وَإِذَا سَبَّ الْمُسْلِمَ فَفِيهِ التَّعْزِيرُ، وَحَكَى بَعْضُهُمُ الاِتِّفَاقَ عَلَيْهِ " انتهى .
ثالثا :
من سب عموم الناس ، أو سب عموم الرجال ، أو سب عموم النساء ، فقد تعرض لاحتمال إثم كل رجل ، أو كل من هجاه أو سبه بغير حق ، وقد تعلقت حقوق هؤلاء جميعا بذمته ، وإذا كان الشرع قد حذر ورهب من تعلق حق مسلم واحد ؛ فكيف بمن يتعرض لحق قبيلة ؛ فكيف بمن تتعلق بذمتها حق الرجال جميعا ؟!
روى ابن ماجة (3761) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ فِرْيَةً لَرَجُلٌ هَاجَى رَجُلًا ، فَهَجَا الْقَبِيلَةَ بِأَسْرِهَا ، وَرَجُلٌ انْتَفَى مِنْ أَبِيهِ وَزَنَّى أُمَّهُ ) وصححه الألباني في " صحيح ابن ماجة " .
فهذه المرأة التي تسب كل الرجال تعرض لإثم كل رجل لم يكن أهلا لما سبت به الرجال ؛ فهل نسيت أن فيهم الصديقين ، والشهداء ، والصالحين ، والأئمة ، والهداة ، وأهل الدين ، فضلا عن الأنبياء ، وأصحابهم ؟!
فهل تسب كل هؤلاء عن عمد ؟ وهل تقوى على خصومة هؤلاء جميعا ؟!
وقد قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) الأحزاب/ 58 .
فالواجب نصح هذه المرأة ، وتحذيرها وترهيبها مما هي عليه من بذاءة اللسان واستطالتها في أعراض المسلمين ، وقد روى أبو داود (4876) عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ : ( إنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ ) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " .
قال في عون المعبود :
" ( إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا ) : أَيْ أَكْثَره وَبَالًا وَأَشَدّه تَحْرِيمًا ( الِاسْتِطَالَة ) : أَيْ إِطَالَة اللِّسَان ( فِي عِرْض الْمُسْلِم ) : أَيْ اِحْتِقَاره وَالتَّرَفُّع عَلَيْهِ , وَالْوَقِيعَة فِيهِ بِنَحْوِ قَذْف أَوْ سَبٍّ , وَإِنَّمَا يَكُون هَذَا أَشَدَّهَا تَحْرِيمًا لِأَنَّ الْعِرْض أَعَزُّ عَلَى النَّفْس مِنْ الْمَال " انتهى
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (175618) .
والله تعالى أعلم .