زواج .. مع وقف التنفيذ
أنا فتاة ملتزمة وعلى قدر من الأخلاق بفضل الله ، من مدة تقدم لخطبتي من نفسي شاب ملتزم خلوق ، حيث أنه من بلد أجنبي ولا يمكنه أن يقدم لبلدي من أجل التأكد من موافقتي ، فاتصل بي مباشرة وعرض علي الزواج ، على أن أخبر أنا أهلي حال موافقتي ، فاستخرت الله وقبلت بعد إخبار أهلي وموافقتهم ، وحدد هو موعدا للسفر إلينا من أجل مباشرة مراسيم العقد والزواج ، لكن في هذه الفترة ، أصيب بوعكة صحية شديدة وأسفرت نتائج الفحوصات على أنه مصاب بمرض خطير مزمن عضال ، فأخبرني بذلك ، وسألني ألا أتخلى عنه في محنته ، وطلب مني ألا أخبر أحدا من أهلي ، وقد وعدته بذلك ، في البداية ، ظننت أنها حكاية للتملص من إتمام الزواج ، لكنني تواصلت مع أكثر من شخص فأكدوا لي حقيقة الأمر ، وأنه فعلا مريض بهذا المرض .
المشكلة أنني قد تعلقت به بشكل كبير ، وهو أيضا ، وأنا أعلم أنه الآن لا يستطيع أن يقدم شيئا من أجل الارتباط بشكل شرعي .
ولا نعلم أيضا هل سيمكنه ذلك أصلا ؟ ومتى يكون ؟
وفي المقابل أعلم أنه من المستحيل أن أتخلى عنه في محنته ، خاصة وأنه شاب ملتزم خلوق اجتمعت به من الصفات ما جعلني وعائلتي نوافق عليه .
سؤالي :
كيف أحافظ عليه ، وعلى علاقتي به وأبرهن له أنني لن أتخلى عنه ، وفي نفس الوقت دون أن أغضب ربي ؟
الجواب
الحمد لله.
أختنا الفاضلة :
نعلم أنه لا أثقل من كلام الحكمة والتعقل والترزن على من لا يستجيب إلا لنداء
العاطفة ، ولا يصيخ إلا لصوت المشاعر ، ولا يطربه سوى أنين وخفقان القلب .
ونعلم ـ أيضا ـ أنك قد تلوميننا إن نحن خضنا من البدء في زجرك ونهيك واسترجاع خطوة
البداية الخاطئة ، وقد تتهميننا بأننا لا نتفهمك ، ولا نقدر معاناتك .
لكن ، فقط ، نرجو منك أن تقدري صعوبة الموقف الذي نقفه نحن ؛ إننا محكمون بأصل شرعي
عام ؛ أن : ( الدين النصيحة ) ، كما قال صلى الله عليه وسلم ، وأن : ( المستشار
مؤتمن ) ، كما قال صلى الله عليه وسلم ، أيضا .
فدعينا الآن ، نعفيك هنا من تقليب صفحة الماضي ، فما كان قد كان ، وربما لا نحتاج
أن نتوقف طويلا عند تقرير أصل عام في سلوك العبد ، وسيرته ، وحياته : أن الأنس
الحقيقي إنما هو بالله جل جلاله ، البر الرحيم ، وألا يغفل العبد عن معاني مراقبته
؛ مراقبة بره وجوده وإحسان ، ومراقبة علمه وحكمته وخبرته ، ومراقبة قدرته وقهره
وسلطانه ؛ إننا نظن أن ذلك كله منك على بال .
ولنبدأ من حيث تكلمت أنت عن نفسك ؛ من حيث ذكرت ما أنعم الله به عليك ، من الدين ،
والخلق ، من حيث ذكرت مراقبتك لربك جل جلاله ، وحرصك على مرضاته ، وخوفك من عصيانه
، والوقوع فيما يغضبه ، سبحانه .
فنقول لك - يا أمة الله - :
إن العبد ـ كما تعلمين جيدا ـ لا يملك من أمر نفسه شيئا ؛ لا خلقا ، ولا تصريفا ،
ولا أمرا وتدبيرا ؛ فالعبد لم يخلق نفسه ، ولم يُصرِّفها ، وليس هو مُخولا بأمرها
ونهيها ، فيما لله فيه طاعة وشرع.
يا أمة الله ؛
هناك أصلان يحكمان حركة العبد في حياته ، ونظرته لواقع أمره ، واختياره ما يختاره ،
قبولا ، أو ردا :
الأول : إيمانه بقدر الله السابق ؛ وهو ركن ركين من إيمان العبد : أن تؤمن بالقدر
خيره وشره ، حلوه ، ومره ؛ قال الله تعالى : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ
بِقَدَرٍ ) القمر/49، وأن يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن
ليصيبه ؛ ويستحضر ذلك في حياته ، وحركاته وسكناته ، ويسلم له : ( مَا أَصَابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) التغابن/11 .
قال ابن كثير رحمه الله : " أَيْ : وَمَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَعَلِمَ أَنَّهَا
بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ ، فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ وَاسْتَسْلَمَ لِقَضَاءِ
اللَّهِ ، هَدَى اللَّهُ قَلْبَهُ، وعَوَّضه عَمَّا فَاتَهُ مِنَ الدُّنْيَا هُدى
فِي قَلْبِهِ ، وَيَقِينًا صَادِقًا ، وَقَدْ يُخْلِفُ عَلَيْهِ مَا كَانَ أَخَذَ
مِنْهُ ، أَوْ خَيْرًا مِنْهُ " .
انتهى من "تفسير ابن كثير" (8/137) .
الثاني : أن العبد مأمور بأمر ربه ، مصرف بشرعه : ( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) الأعراف/54 ، وقال تعالى : (
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا ) النساء/65 .
يا أمة الله ؛
إننا الآن أمام مشروع : زواج " ، مع وقف التنفيذ" ؛ لا ، بل واستحالة إتمامه في
الظروف المشار إليها ، ثم تعليق إمكان ذلك في المستقبل ، بأجل غير محدد ، ولا معلوم
!!
استخارة ، واستشارة ، وبعدها مباشرة ، في الوقت الذي كان مجيء الخاطب مقررا ليتم
الزواج ، يسبق القدر ، ليكتشف الخاطب أنه مريض مرضا عضالا .
ألا يشير لك هذا التضافر في الأحداث إلى شيء ؟
ألا يمكن أن يكون مرض هذا الخاطب : علامة على أن زواجك منه لا يصلح لك ، وليس لك
فيه خير؟ ألا يمكن أن يكون ذلك ثمرة من ثمرات استخارة الله ، والاستعانة به ، وصدق
اللجوء إليه ، ونتيجة لمقتضى الدعاء (..إن كان هذا الأمر شرا لي ..) ؟
يا أمة الله ؛
ألا يستحق هذا الوضع المعقد ، إلى تأمل أكثر عقلا ؟!
التأمل في حال مشروع "زواج مع إيقاف التنفيذ" ، إيقاف لأجل غير مسمى ، لا يعلم
منتهاه إلا الله وحده !!
إن المهمة الصعبة لا بد لها من إعداد مكافئ ، وزاد مناسب ، مناسب لطول الطريق ، خوف
الانقطاع ..
إننا إذا كنا سنفكر من منظور "الزواج الشرعي" ، على ما نفهمه من شرع الله ، فليس من
اليسير القبول بزواج كهذا ، ليس من المرجح أن تبدأ أولى خطواته العملية في وقت قريب
، أو حتى في وقت بعيد ، نعلم نحن أمده ؛ لكن : مجهول !!
ثم نحن نتحدث عن نكاح ، ليس من المرجح ، مع مثل هذا الداء العضال : أن يؤدي مقاصد
النكاح التي شرع من أجلها ، وأظهرها الذرية والولد ، مع تمام القدرة على : العفاف ،
والإعفاف!!
إننا هنا أمام خلل وقع بينكما ، ونحن بعد لم نصنع شيئا ؛ فكيف بما بعد ذلك ؟!
يتمثل هذا الخلل في اتفاقكما على كتمان المرض عن أهلك !!
إن الله عز وجل شرع الولي في النكاح ، ومنع المرأة من أن تستبد بنكاح نفسها ؛ فلا
نكاح إلا بولي ، فإذا كان الولي لم يعلم بمثل ذلك الأمر الخطير المؤثر ، فما قيمة
الولي إذا ؟ إنه يتخذ قراره بالقبول أو الرفض ، بناء على معطيات ظاهرة أمامه ؛ فإذا
كان مثل هذا المعطَى المؤثر غائبا عنه ، أو مغيبا عنه ـ بتعبير أدق ـ بصورة متعمدة
؛ فكيف يمكن الاطمئنان إلى قراره ؟ بل كيف يمكنه هو أن يتخذ القرار الصحيح ،
وبمقتضى الأمانة التي جعلها الله في عنقه ؟!
هل جعلناه صورة ، دمية نلعب بها ، ونحن الذين نقرر ، أو لا نقرر ؛ فلأي شيء شرع
الله الولي في النكاح إذا ؟
إن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها ، قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إ" نَّ
مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ ، وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي ، فَقَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَمَّا أَبُو جَهْمٍ ، فَلَا يَضَعُ
عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ ،
انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ ) فَكَرِهْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: ( انْكِحِي أُسَامَةَ
)، فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا، وَاغْتَبَطْتُ بِهِ ". رواه مسلم
(1480) .
فانظري يا أمة الله ، كيف عرضتْ صورة الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وكيف نظر إلى ما فيه مصلحتها ، وما فيه عون لها على تحقيق مقاصد النكاح .
إننا لو افترضنا أن الشرع لم يشترط موافقة الولي ، وتوليه هو أمر النكاح ، لكان
واجبا عليك أن تُعلمي أهلك بكل ذلك ؛ فهم شركاؤك في همك وفرحك ، وهم الكنف الذي
تأوين إليه في كل مُلمة ؛ فكيف تغررين بهم في مثل ذلك ؟!
لقد ذكر بعض أهل العلم أن من مقاصد اشتراط الولي في النكاح : أن المرأة غالبا ما
تنساق وراء عاطفتها ، فكان لا بد لها من صوت العقل ، يسددها ، ويقومها .
لسنا هنا ـ إذا ـ في مقام : نستحب لك ، أو نفضل ، أو ... ، بل إننا نقول : إنه ليس
من حقك أن تكتمي ذلك عن أهلك ؛ وليس من حقه هو أن يمنع هذه المعلومة المهمة عن أهلك
، وأن يتواطأ معك على ذلك ؛ حتى لو قدر شفاؤه فيما بعد ذلك ، لكن ما دام أن هذا
الأمر قد حصل الآن ، فلا بد أن يكون وليك على بينة من أمر الخاطب ، لأنه هو الذي
يملك أن يقبل أو يرفض ؛ صحيح أن وليك الشرعي لا يملك أن يجبرك على النكاح بمن لا
ترغبين ، لكنه أيضا ـ وفي حكم الشرع ـ يملك أن يمنعك من الزواج بمن لا يراه مناسبا
لك ، ولا يرى في زواجك منه حظك ، ومصلحتك ، وتأملي حديث فاطمة السابق ، بل تأملي
مقصد الشرع في تشريع الولي في النكاح ، وإلا فما فائدته إذا .
وليس من حقه أن يمنعك من إخبار أهلك وغشهم .
نعم ، إنه مبتلى ، نسأل الله أن يعافيه ، ويشفيه شفاء لا يغادر سقما ؛ لكن ليس من
حق المبتلى أن ينزل بلاءه بالناس ، ولا أن يأخذ ما ليس من حقه ؛ فأعط كل ذي حق حقه
.
إن مكارم الأخلاق : أن يؤثر المرء على نفسه ، ولو كان محتاجا ؛ فكيف إذاً يسعى إلى
الاستئثار بغيره ، وتحميله مؤنته ، من غير أن يكون على استعداد تام لها ؟!
أختنا الفاضلة ،
نفترض أن وليك قد عرف بذلك ، وقبل هو ، وقبلت أنت ؛ فهنا يأتي الكلام : هل تستمرين
؟!!
فاسألي نفسك حينئذ : هل هي عاطفة عابرة ، أو تصبرين على طول الطريق ؟!
أما إذا فكرت بحكمة ، وروية ، فأنت أبصر بأمرك ، وما فيه مصلحتك .
لكنك الآن ، امرأة أجنبية عنه ، حتى ولو كان خاطبك ، ليس له منك ، إلا ما للرجل من
امرأة أجنبية ، فليس لكما أن تتوسعا في الكلام من غير حاجة ، ولا في التعاملات أيضا
، فيما لا يحتاج إليه .
لك مواساته ، حينما يحتاج ، ولا بأس إن حصل كلام ، أو اتصال ، إذا كان لحاجة ، وأذن
لك وليك ، ولم يكن فيه خضوع بقول ، أو ائتمار على شيء ، أو مظنة للفتنة .
ليس لأحد أن يفرض عليك عدم انتظار الفرج من الله بشفائه ، ولا ألا تثقي في منة الله
سبحانه عليكما بأن يعافيه ، ويجمع بينكما فيما يحبه ويرضاه ، ولا أحد يستطيع أن
يجبرك على التنازل عن اختيارك ما دمت ترين أنك متمسكة به ، أو تظنين أنه لا يمكنك
العيش بدونه ؛ لكن كل ما نريد أن نقوله هنا : أن تراقبي الله في علاقتك به ، وتفكري
بحكمة وروية ، وألا تكون شفقتك وحنانك هي الدافع الوحيد ، أو المتحكم الرئيس في
قرارك هذا ؛ وألا تستبدي برأي أو قرار ، دون أهلك ، ووليك الشرعي ؛ يقف معك على
واقع الحال ، ثم تقررون جميعا ما ترونه مناسبا .
فإذا ما بدا لكم أنه من الخير لكم أن تقف العلاقة عند هذا الحد ، ويمضي كل منكما في
طريقه ، وما قدره الله له ؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله كتب
الإحسان على كل شيء ) ، فنرى ألا يكون ذلك مفاجئا ، صادما ، بل نرى أن يكون الدور
في ذلك لوليك ، يتولى هو معالجة الأمر بحكمة وروية ، وبتدريج مناسب لواقع الحال ،
ورفق بالمريض ؛ ألا يصدم بذلك ، ليقلل الأذى والضرر ، قدر الإمكان.
وأيا ما كان اختيارك ، أو قرارك ؛ فليس أقل من أن تفكري فيما أشرنا عليك به ، بحكمة
وروية ، وأناة ، وأن تستعيني بالله ، وتسأليه أن يلهمك رشدك ، ويقيك شر نفسك .
يسر الله لك أمرك ، وفرج كربك ، وكشف همك وغمك ، وصرف عنك الفتن ، ما ظهر منها وما
بطن .
والله أعلم .