الحمد لله.
وقد بحث العلماء في أهداف
الأبحاث والدراسات التي تغص بها مكتبات الاستشراق ، ودوافع الكتابة في الطعن في
القرآن والحديث ، فذكروا مجموعة من الأهداف والدوافع ، نحاول تقريرها باختصار من
كتاب " الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم " للشيخ مصطفى السباعي رحمه الله ،
حيث يقول : " دوافع الاستشراق :
1 - الدافع الديني :
لا نحتاج إلى استنتاج وجهد في البحث لنتعرف إلى الدافع الأول للاستشراق عند
الغربيِّين وهو الدافع الديني ، فقد بدأ بالرهبان واستمر كذلك حتى عصرنا الحاضر ،
وهؤلاء كان يهُمُّهُمْ أنْ يطعنوا في الإسلام ، ويُشَوِّهُوا محاسنه ، ويُحَرِّفُوا
حقائقه ، ليثبتوا لجماهيرهم التي تخضع لزعامتهم الدِّينِيَّةِ : أنَّ الإسلام - وقد
كان يومئذٍ الخصم الوحيد للمسيحية في نظر الغربيِّين - دين لا يستحق الانتشار ،
وأنَّ المسلمين قوم هُمَّجٌ لصوص وسفَّاكُو دماء ، يحثهم دينهم على الملذات الجسدية
، ويبعدهم عن كل سمو روحي وخلقي .
ثم اشتدَّتْ حاجتهم إلى هذا الهجوم في العصر الحاضر ، بعد أنْ رأوا الحضارة الحديثة
قد زعزعت أسس العقيدة عند الغربيِّين ، وأخذت تشكُّكَهُم بكل التعاليم التي كانوا
يتلقونها عن رجال الدين عندهم فيما مضى ، فلم يجدوا خيراً من تشديد الهجوم على
الإسلام ، لصرف أنظار الغربيِّين عن نقد ما عندهم من عقيدة وكتب مقدسة ، وهم يعلمون
ما تركته الفتوحات الإسلامية الأولى ، ثم الحروب الصليبية ، ثم الفتوحات العثمانية
في أوروبا بعد ذلك في نفوس الغربيِّين من خوف من قوة الإسلام ، وكرهٍ لأهله ،
فاستغلُّوا هذا الجو النفسي ، وازدادوا نشاطاً في الدراسات الإسلامية .
وهناك الهدف التبشيري الذي لم يتناسوه في دراساتهم العلميَّة ، وهم قبل كل شيء رجال
دين ، فأخذوا يهدفون إلى تشويه سُمعة الإسلام في نفوس رُواد ثقافتهم من المسلمين ؛
لإدخال الوهن إلى العقيدة الإسلامية ، والتشكيك في التراث الإسلامي والحضارة
الإسلامية ، وكل ما يتَّصل بالإسلام من علم وأدب وتراث .
2 - الدافع الاستعماري :
لما انتهت الحروب الصليبية بهزيمة الصليبيِّين ، وهي في ظاهرها حروب دينية ، وفي
حقيقتها حروب استعمارية ، لم ييأس الغَرْبِيُّونَ من العودة إلى احتلال بلاد العرب
فبلاد الإسلام ، فاتَّجهوا إلى دراسة هذه البلاد في كل شؤونها ، من عقيدة وعادات
وأخلاق وثروات ؛ ليتعرَّفوا إلى مواطن القوة فيها فيضعفوها ، وإلى مواطن الضعف
فيغتنموها ، ولما تمَّ لهم الاستيلاء العسكري ، والسيطرة السياسية ، كان من دوافع
تشجيع الاستشراق : إضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوسنا ، وبث الوهن
والارتباك في تفكيرنا ، وذلك عن طريق التشكيك بفائدة ما في أيدينا من تراث ، وما
عندنا من عقيدة وقِيَمٍ إنسانية ، فنفقد الثقة بأنفسنا ، ونرتمي في أحضان الغرب ،
نستجدي منه المقاييس الأخلاقية ، والمبادئ العقائدية ، وبذلك يتم لهم ما يريدون من
خضوعنا لحضارتهم وثقافتهم ، خضوعاً لا تقوم لنا من بعده قائمة .
3 - الدافع التجاري :
ومن الدوافع التي كان لها أثرها في تنشيط الاستشراق ، رغبة الغربيِّين في التعامل
معنا لترويج بضائعهم ، وشراء مواردنا الطبيعية الخام بأبخس الأثمان ، ولقتل صناعتنا
المحلية التي كانت لها مصانع قائمة مزدهرة في مختلف بلاد العرب والمسلمين .
4 - الدافع السياسي :
وهنالك دافع آخر أخذ يتجلَّى في عصرنا الحاضر بعد استقلال أكثر الدول العربية
والإسلامية ، ففي كل سفارة من سفارات الدول الغربية ، لدى هذه الدول : سكرتير ، أو
ملحق ثقافي ، يحسن اللغة العربية ، ليتمكَّن من الاتصال برجال الفكر والصحافة
والسياسة ، فيتعرَّف إلى أفكارهم ، ويبث فيهم من الاتجاهات السياسية ما تريده دولته
، وكثيراً ما كان لهذا الاتصال أثره الخطير في الماضي ، حين كان السفراء
الغَرْبِيُّونَ - ولا يزالون في بعض البلاد العربية والإسلامية - يبُثُّون الدسائس
للتفرقة بين الدول العربية بعضها مع بعض ، وبين الدول العربية والدول الإسلامية ،
بحُجَّة توجيه النصح ، وإسداء المعونة ، بعد أنْ درسوا تماماً نفسيَّة كثيرين من
المسؤولين في تلك البلاد ، وعرفوا نواحي الضعف في سياستهم العامة ، كما عرفوا
الاتجاهات الشعبية الخطيرة على مصالحهم واستعمارهم .
5 - الدافع العِلْمِيّ :
ومن المُسْتَشْرِقِينَ نفر قليل جِدًّا : أقبلوا على الاستشراق بدافع من حب الاطلاع
على حضارات الأمم وأديانها وثقافاتها ولغاتها ، وهؤلاء كانوا أقل من غيرهم خطأً في
فهم الإسلام وتراثه ؛ لأنهم لم يكونوا يتعمَّدون الدَسَّ والتحريف ، فجاءت أبحاثهم
أقرب إلى الحق ، وإلى المنهج العملي السليم من أبحاث الجمهرة الغالبة إلى
المُسْتَشْرِقِينَ ، بل إنَّ منهم من اهتدى إلى الإسلام وآمن برسالته .
على أنَّ هؤلاء لا يوجدون ـ عادة ـ إلاَّ حين يكون لهم من الموارد المالية الخاصة :
ما يمكنهم من الانصراف إلى دراسات الاستشراق بأمانة وإخلاص ؛ لأنَّ أبحاثهم
المُجَرَّدة عن الهوى ، لا تلقى رواجاً ، لا عند رجال الدين ، ولا عند رجال السياسة
، ولا عند عامة المتنفذين ، وأصحاب السطوة والثروة والوفرة ؛ ومن ثم ، فهي لا
تَدُرُّ عليهم ربحاً ولا مالاً ؛ ولهذا ندر وجود هذه الفئة في أوساط
المُسْتَشْرِقِينَ .
أهداف الاستشراق ووسائله :
تنقسم أهداف المُسْتَشْرِقِينَ في جُملتهم من الدراسات الاستشراقية إلى ثلاثة أقسام
:
[أ]- هدف عِلْمِيٍّ مشبوه ، ويهدف إلى :
1 - التشكيك بصحَّة رسالة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
2 - إنكارهم أنْ يكون الإسلام ديناً من عند الله .
3 - التشكيك في صِحَّةِ الحديث النبوي .
4 - التشكيك بقيمة الفقه الإسلامي الذاتية .
5 - التشكيك في قُدْرَةِ اللُّغة العربية على مسايرة التطوُّرَ العِلْمِيّ .
تلك هي الأهداف العلميَّة التي يعمل لها أكثرهم أو جَمْهَرَتُهُمْ الساحقة .
[ب]- الأهداف الدِّينِيَّةِ
والسياسية :
وتتلخَّص فيما يلي :
1 - إضعاف ثقة المسلمين بتراثهم ، وبث روح الشك في كل ما بين أيديهم من قِيمٍ
وعقيدة ومُثُلٍ عُلْيَا ، ليسهل على الاستعمار تشديد وطأته عليهم ، ونشر ثقافته
الحضارية فيما بينهم ، فيكونوا عبيداً لها ، يجرُّهُمْ حُبُّهَا إلى حُبِّهِمْ ، أو
إضعاف روح المقاومة في نفوسهم .
2- إضعاف روح الإخاء الإسلامي بين المسلمين في مختلف أقطارهم عن طريق إحياء
القوميات التي كانت لهم قبل الإسلام ، وإثارة الخلافات والنعرات بين شعوبهم .
[جـ]- أهداف علميَّة خالصة :
أهداف علميَّة خالصة لا يقصد منها إلاَّ البحث والتمحيص ، ودراسة التراث العربي
والإسلامي دراسة تجلو لهم بعض الحقائق الخافية عنهم ، وهذا الصنف قليل عدده جداً ،
كما سبق ذكره ، وهم مع إخلاصهم في البحث والدراسة : لا يسلم الكثير منهم من الأخطاء
في البحث ، والاستنتاجات البعيدة عن الحق ، إمّا لجهلهم بأساليب اللغة العربية ،
وإمَّا لجهلهم بالأجواء الإسلامية التاريخية على حقيقتها .
وهذه الفئة أسلم الفئات
الثلاث في أهدافها ، وأقلّها خطراً ؛ إذ سرعان ما يرجعون إلى الحق حين يَتَبَيَّنُ
لهم ، ومنهم من يعيش بقلبه وفكره في جَوِّ البيئة التي يدرسها ، فيأتي بنتائج تنطبق
مع الحق والصدق والواقع ، ولكنهم يلقون عنتاً ممن يتَّهمونهم بالانحراف عن النهج
العِلْمِيّ ، أو الانسياق وراء العاطفة ، أو الرغبة في مجاملة المسلمين والتقرُّب
إليهم ، كما فعلوا مع " توماس أرنولد " حين أنصف المسلمين في كتابه " الدعوة إلى
الإسلام " ؛ فقد برهن على تسامح المسلمين في جميع العصور مع مخالفيهم في الدين ،
على عكس مخالفيهم معهم ، هذا الكتاب الذي يعتبر من أدق وأوثق المراجع الغربية في
تاريخ التسامح الديني في الإسلام ، يطعن فيه المُسْتَشْرِقُونَ المُتعصِّبُون وخاصة
المُبَشِّرِينَ منهم ، بأنَّ مؤلفه كان مندفعاً بعاطفة قوية من الحب والعطف على
المسلمين ، مع أنه لم يذكر فيه حادثة إلاَّ أرجعها إلى مصدرها .
ومن هؤلاء من يُؤَدِّي بهم البحث الخالص لوجه الحق إلى اعتناق الإسلام ، والدفاع
عنه في أوساط أقوامهم الغربيِّين ، كما فعل المستشرق الفرنسي " دينيه " الذي عاش في
الجزائر ، فأعجب بالإسلام وأعلن إسلامه ، وتَسَمَّى باسم " ناصر الدين دينيه "،
وألَّف مع عالم جزائري كتاباً عن سيرة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
وله كتاب " أشعة خاصة بنور الإسلام " بَيَّنَ فيه تحامل قومه على الإسلام ورسوله ،
وقد توفي هذا المستشرق المسلم في فرنسا ، ونقل جثمانه إلى الجزائر ودفن بها "
مستفاد ، باختصار وتصرف من كتاب " الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم " للشيخ
مصطفى السباعي رحمه الله .
والله أعلم .