لا حرج في الدعاء حال الاضطجاع على الجنب
ما حكم دعاء الله والرجل في فراشه مستلقيا ؟
فإنني أشعر بالخشوع أكثر مما أكون جالسا ، أو قائما لأنني أختفي عن أعين الناس ، ولا يراني أحد حتى أهل بيتي ، وأشعر أنني وحدي لا يرقبني إلا الله .
الجواب
الحمد لله.
لا نرى حرجا عليك في الدعاء مضطجعا أو مستلقيا إذا كان حالك كما ذكرت في السؤال من
الخشوع وحسن الصلة بالله سبحانه وتعالى ، وذلك لأدلة عدة :
أولا :
قول الله عز وجل : ( وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ
قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ
يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُون ) يونس/12.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله :
" ( دعانا لجنبه ) أي : على جنبه مضطجعا . ( أو قاعدا أو قائما ) وإنما أراد جميع
حالاته ، لأن الإنسان لا يعدو إحدى هذه الحالات الثلاثة ، قال بعضهم : إنما بدأ
بالمضطجع لأنه بالضر أشد في غالب الأمر ، فهو يدعو أكثر ، واجتهاده أشد ، ثم القاعد
، ثم القائم " .
انتهى من " الجامع لأحكام القرآن " (8/317) .
ويقول العلامة السعدي رحمه الله :
" وهذا إخبار عن طبيعة الإنسان من حيث هو ، وأنه إذا مسه ضر ، من مرض أو مصيبة
اجتهد في الدعاء ، وسأل الله في جميع أحواله ، قائما وقاعدا ومضطجعا ، وألح في
الدعاء ليكشف الله عنه ضره " انتهى من " تيسير الكريم الرحمن " (359) .
ثانيا :
يقول الله تعالى : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ
اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ
فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) آل عمران/190-191 .
يقول الإمام القرطبي رحمه الله :
" ( وعلى جنوبهم ) ذكر تعالى ثلاث هيئات لا يخلو ابن آدم منها في غالب أمره ،
فكأنها تحصر زمانه . ومن هذا المعنى قول عائشة رضي الله عنها : ( كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه ) [رواه مسلم (373)] " .
انتهى من " الجامع لأحكام القرآن " (4/310) .
ثالثا :
ثبت في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا وهو على جنبه ، واضعا يده
تحت رأسه ، كما روى الترمذي (3398) وصححه ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ : "
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ
يَنَامَ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ ، ثُمَّ قَالَ : ( اللَّهُمَّ قِنِي
عَذَابَكَ يَوْمَ تَجْمَعُ - أَوْ تَبْعَثُ – عِبَادَكَ ) وصححه الألباني في " صحيح
الترمذي " .
ومثلها ما ورد في أذكار النوم ما يكون حال الاستلقاء والاضطجاع ، فقياس الدعاء
المطلق عليها قياس صحيح ، بجامع أن الذكر والدعاء جنس واحد .
رابعا :
وردت بعض الآثار عن الصالحين في الدعاء حال الاضطجاع ، منها ما جاء عن مورِّق قال :
" كان رجل يعملُ السَّيئات ، فخرج إلى البرية ، فجمع تراباً ، فاضطجع عليه مستلقياً
، فقال : ربِّ اغفر لي ذنوبي . فقال : إنَّ هذا ليعرِفُ أنَّ له رباً يغفِرُ
ويُعذِّب ، فغفر له " .
انتهى من " جامع العلوم والحكم " (2/408) .
خامسا :
ومن تحقق له صدق المسألة بين يدي الله حال اضطجاعه ، ووجد في قلبه رقة وإقبالا على
الله ، مستشعرا خلوته بالله سبحانه ، أو مستشعرا ضجعة القبر حين لا يجد إلا عمله
الصالح ، فمن القواعد الشرعية المهمة تقديم ما يتعلق بذات العبادة من حضور القلب
والخشوع فيها ، على أي فضل متعلق بالهيئة أو الزمان والمكان ، ما دام الأمر كله في
دائرة الجواز ؛ خاصة إذا لم يكن ذلك من شأنه الدائم ولا عادته اللازمة ، بل هو يدعو
قائما ، وقاعدا ، وعلى جنبه ؛ فمتى احتاج الدعاء : دعا ، أيا كانت هيئته في قيام أو
غيره ، ومتى تيسر له الدعاء : دعا .
لكن لا ينبغي للداعي أن يخص هذه الحالة بدعائه ، ولا أن يتقصد ذلك تقصدا كلما دعا ؛
فإن من آداب الدعاء المستحبة : استقبال الداعي للقبلة ، إذا دعا ، والانكسار بين
يدي رب العالمين ، وكون الداعي في حال أقرب إلى الذلة والمسكنة ، والفقر والحاجة ،
والضرورة إلى ما يدعو به .
يقول العلامة ابن عاشور رحمه الله :
" ( وعلى جنوبهم ) إنما جعل الجنب مجرورا باللام ولم ينصب ، فيقال مثلا ( مضطجعا أو
قاعدا أو قائما ) لتمثيل التمكن من حالة الراحة بذكر شق من جسده ؛ لأن ذلك أظهر في
تمكنه... للدلالة على أنه يدعو الله في أندر الأحوال ملابسة للدعاء ، وهي حالة تطلب
الراحة وملازمة السكون . ولذلك ابتدئ بذكر الجنب ، وأما زيادة قوله : ( أو قاعدا أو
قائما ) فلقصد تعميم الأحوال وتكميلها ؛ لأن المقام مقام الإطناب لزيادة تمثيل
الأحوال ، أي دعانا في سائر الأحوال لا يلهيه عن دعائنا شيء " انتهى من " التحرير
والتنوير " (11/ 110) .
وينظر جواب السؤال رقم : (136521) .
سادسا :
سبق تقرير أن من آداب الدعاء المستحبة : أن يستقبل الداعي القبلة في دعائه ، وفي
ذلك عدة أحاديث ، منها :
- ما رواه مسلم (1763) عن ابن عَبَّاسٍ، قَالَ: " حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ
مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا ، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ
بِرَبِّهِ : ( اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي ، اللهُمَّ آتِ مَا
وَعَدْتَنِي ، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ
الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ) ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ ،
مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ
مَنْكِبَيْهِ ... " الحديث .
قال النووي رحمه الله :
" فِيهِ اسْتِحْبَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ في الدعاء ، ورفع اليدين فيه "
انتهى .
- ومنها ما رواه البخاري (3960) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، قَالَ: " اسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الكَعْبَةَ ، " فَدَعَا عَلَى نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ ... " الحديث.
- ومنها ما رواه البخاري (6343) ، ومسلم (894) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رضي
الله عنه قَالَ : " خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا
المُصَلَّى يَسْتَسْقِي ، فَدَعَا وَاسْتَسْقَى ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ
وَقَلَبَ رِدَاءَهُ " .
وينظر جواب السؤال رقم : (36902) .
والله أعلم .