والديَّ متدينان جداً ، ويحبان الله تعالى ، ويصليان ، ويصوما، ن ويحفظان القرآن، ويعيشان حياتهما وفقاً لمنهج الإسلام ، ولم يسبق لهما أن ارتكبا خطأ أو جرماً ، لكنهما ومنذ بضعة سنوات بدءا يغرقان في الكثير من المشاكل المالية والعاطفية والجسدية ، وهذا ولا شك امتحان من الله لينظر صبرهما ، لكنني أتساءل أليس هذا كافياً ؟ لقد مضت سنوات وهم على هذه الحالة ، فلماذا لا يستجيب الله لدعواتهما ويساعدهما ويخرجهما مما هما فيه ؟
بل تزداد الأمور سوءاً يوماً بعد يوم.
ولا تتوقف المشكلة هنا فحسب ، بل أصبحت أشعر بأن الله لم يعد يكترث بنا مع أني أعلم جيداً أن التفكير بهذه الطريقة لا يصح ، لكنني لا أجد تفسيراً لكل ما يحدث ، خصوصاً وأني أراهما يدعوان كل يوم ، ومع هذا يعانيان كل لحظة ، فلماذا لا يرفع عنهما شيئاً من الثقل ؟
لقد صرت أقول أشياء في الآونة الأخيرة من قبيل " إن الله قد هجرنا" وأصبحت غير متيقنة من أن وصف الإسلام ما زال منطبقاً عليَّ ، إن رؤيتهما على هذه الحالة قد أثر كثيراً في إيماني، ولم أعد أدري ما العمل ، لأنني في قرارة نفسي أريد أن أكون مسلمة صالحة ، لكن الواقع لا يساعد على ذلك ،. ولا أدري ما جدوى أن أكون بتلك الصفة ، فإذا كان الله لا يساعد من يحب الإسلام ذاك الحب ، فكيف سيساعد مذنبة مثلي ؟! فما رأيكم ؟
الحمد لله.
هذا الذي يعتريك من وساوس الشيطان وهواجسه وما يلقيه في نفس العبد ليصرفه عن دينه
ويؤيسه من رحمة ربه فيسيء الظن به ويقبع وراء تراكمات وخيالات وأوهام شيطانية لا
أساس لها ولا حقيقة لها .
إن الله تعالى هو خالق الخلق ومالك الملك ومدبر الأمر ، وهو سبحانه أرحم بعبده من
الأم بولدها ، بل هو أرحم بعبده من العبد بنفسه ، ولكن هذا لا يحيط بعلمه إلا من
نوّر الله بصيرته بالإيمان .
ودعينا ننظر بروية في الأمر - تأصيلا وتفصيلا - بما يجب علينا معرفته والإيمان به :
فنقول أولا :
لا يُسأل الله عز وجل عما يفعل ، فهو خالق الخلق ومدبر الأمر ، يفعل ما يشاء ويحكم
ما يريد ، لا معقب لحكمه ولا راد لأمره .
ثانيا :
الله عز وجل أرحم بعبده من نفسه ، وأعلم بما يصلحه وينفعه في أمر دينه ودنياه منه ،
والواجب على العبد أن يعلم ذلك ويوقن به .
ثالثا :
نظر العبد قاصر ، وإدراكه ناقص ، وبصره كليل عن أن يدرك العواقب ، أو يرى الحقائق
كما ينبغي ، وكثيرا ما يرى الخير شرا ، والشر خيرا ، والصلاح فسادا والفساد صلاحا ،
وقد قال الله تعالى : ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ
لَا تَعْلَمُونَ ) البقرة / 216 .
قال ابن القيم رحمه الله : " العبد لا يريد مصلحة نفسه من كل وجه ولو عرف أسبابها ،
فهو جاهل ظالم ، وربه تعالى يريد مصلحته ، ويسوق إليه أسبابها ، ومن أعظم أسبابها :
ما يكرهه العبد ؛ فإن مصلحته فيما يكره ، أضعاف أضعاف مصلحته فيما يحب " انتهى من
"مدارج السالكين" (2/ 205) .
رابعا :
ما يقدره الله لعبده المؤمن هو خير كله ، من حيث يدري ومن حيث لا يدري ، روى مسلم
(2999) عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ
خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ : إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ
شَكَرَ ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ ، فَكَانَ
خَيْرًا لَهُ ) .
خامسا :
نزول البلاء بالمؤمن نزول خير ورحمة ، وإنما يبتلي الله عبده المؤمن ليكفر عنه
خطاياه ويرفع له درجته ، ويُبتلى المرء على قدر دينه ، وعلى حسب صلابته فيه .
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ : " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ
النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ ، قَالَ : ( الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ
فَالْأَمْثَلُ ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ
صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى
حَسَبِ دِينِهِ ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي
عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ) .
رواه الترمذي (2398) وصححه ، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" .
سادسا :
من حكم ابتلاء الرب جل جلاله ، لعبده المؤمن : أن يتضرع إليه ، ويتقرب إليه بأنواع
القربات والطاعات ، قال تعالى : ( فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا
وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ )الأنعام/ 43 .
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ : " مَا يَكْرَهُ الْعَبْدُ : خَيْرٌ لَهُ مِمَّا يُحِبُّ ؛
لِأَنَّ مَا يَكْرَهُهُ يَهِيجُهُ عَلَى الدُّعَاءِ ، وَمَا يُحِبُّ يُلْهِيهِ
عَنْهُ " .
وعَنْ كُرْدُوسَ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: " فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
مِنَ الْكُتُبِ : أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْتَلِي الْعَبْدَ وَهُوَ
يُحِبُّهُ ؛ لَيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ " .
انتهى من " الفرج بعد الشدة " لابن أبي الدنيا (ص 41-42) .
سابعا :
الصبر على المقدور والرضا بما قسم الله من علامات الإيمان .
قال ابن القيم رحمه الله :
" قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : الْإِيمَانُ نِصْفَانِ : نِصْفٌ صَبْرٌ ، وَنِصْفٌ
شُكْرٌ ، قَالَ تَعَالَى: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ )
إبراهيم/ 5 ، وَالصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ
" انتهى من " زاد المعاد " (4/ 305) .
ثامنا :
إذا صبر العبد على ما يكره ، أعقبه خيرا كثيرا ، وبمقدار صبره يكون الخير الذي
يعقبه .
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال : ( ...
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا ، وَأَنَّ
النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ ، وَأَنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْرًا ) رواه أحمد (2800) وصححه محققو المسند .
تاسعا :
كل ابن آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون ، ومن فوائد العلم بذلك أن يعلم العبد أن
ما أصابه من الضر والبلاء إنما هو بذنبه كما قال الله تعالى : ( وَمَا أَصَابَكُمْ
مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) الشورى/ 30 .
فإذا علم ذلك هيجه البلاء على التوبة والاستغفار .
ولذلك فإن قول السائلة عن والديها " لم يسبق لهما أن ارتكبا خطأ أو جرماً " هذا أمر
لم يتفق لنا ، بل نحن ـ بنو آدم ـ أهل الخطأ والتقصير في جنب الله ؛ ومتى علم العبد
أنه ظلوم جهول ، وأن ما يصيبه ، إنما هو بذنبه : حضه ذلك على كثرة الاستغفار ،
والعلم أنه أهل ذلك وأكثر ، ولكن الله يعفو عن كثيرٍ ، بلطفه ورحمته سبحانه .
ثم اعلمي يا أمة الله : أنه إذا قدر أن الأمر كما ظننت ، من أن والديك لم يعملا خطأ
، يستحقان به ابتلاءً ، فقد ذكرنا أن حكم الابتلاء أوسع من مجرد هذه النظرة القاصرة
؛ بل تأملي في حال نبي الله أيوب عليه السلام ، وهو نبي من أنبياء الله الكرام :
لبث به البلاء ثمانية عشر عاما ، حتى رفضه القريب والبعيد ؛ فأين حال والديك من ذلك
.
وقصص السلف والصالحين في ذلك كثيرة معلومة ، وانظري كيف أن الله قد أثنى على نبيه
أيوب بالصبر ، والرجوع إلى ربه ، بعد ذلك الزمان من البلاء ، ومع ذلك فقد ذكر أنه
بث إلى ربه شكواه ، وتضرع إليه ، ودعاه : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ
نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ
بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ
وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ
بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) ص/41-44 .
عاشرا :
الدعاء سلاح المؤمن ، وعماده في الشدائد والملمات ، وعلى المسلم ألا يجزع من عدم
إجابة الدعاء أو تأخرها ؛ فإن الاستجابة على أنواع : إما أن تعجل له دعوته بخصوصها
، أو يصرف عنه من السوء بمثلها ، أو يدَّخر ذلك له أجراً وثواباً يوم القيامة .
فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (
مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ
إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ : إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ
دَعْوَتُهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَإِمَّا أَنْ
يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا ، قَالُوا : إِذًا نُكْثِرُ ؟ قَالَ :
اللَّهُ أَكْثَرُ ) .
رواه أحمد ( 10749 ) ، وصححه الألباني في " صحيح الترغيب والترهيب " ( 1633 ) .
وينظر في الإيمان بالقدر :
جواب السؤال رقم : (34732) .
ولمعرفة فوائد ابتلاء الرب تعالى عبده المؤمن ينظر جواب السؤال رقم : (12099).
ولمعرفة موقف المؤمن من الابتلاء يراجع جواب السؤال رقم : (71236)
.
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (22798)
، (103099) .
ولا شك أن ما ذكرتيه من
الكلام : هو من سوء الأدب مع الله جل جلاله ، وسوء الظن به أيضا ؛ فاستغفري ربك يا
أمة الله من قول السوء بلسانك ، وظن السوء بربك ، الذي هو أولى بكل جميل ، واسأليه
من فضله ، واستعيني به على ما أنتم فيه من شدة وبلاء .
نسأل الله أن يَمُنَّ عليك وعلى أهلك بالتوبة النصوح ، والثبات على الهدى ودين الحق
، وأن يفرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء ، ويبدلكم مكانه نعمة ورخاء وسرورا ، وعملا
صالحا يقربكم إليه زلفى .
والله تعالى أعلم .