مفاوضات تيمورلنك مع ابن مفلح الحنبلي الابن ، وليس الأب صاحب ابن تيمية
أنا طالب علم من العراق ، أدرس الفقه الحنبلي ، حدثني أحدهم أنه قرأ أن ابن مفلح الحنبلي - رحمه الله - اصطف مع تيمورلنك في غزو التتار لبلاد الشام .
فهل هذا صحيح ؟ وأنا بصراحة صارت عندي صدمة ، فما القصة ، وهل أَثَّر هذا على ابن مفلح من ناحية علمه ؟
الجواب
الحمد لله.
حادثة سقوط دمشق في يد القائد المغولي ( تيمورلنك ) من آسف الحوادث التاريخية ؛ لما
وقع فيها من قتل وتدمير ونهب لإحدى أعظم عواصم الأمة الإسلامية ( دمشق ) ، وقد وقع
ذلك سنة (803هـ) ، حتى قال المقريزي رحمه الله (ت845هـ) : " وطرق بلاد الشام فيها
الأمير تيمورلنك ، فخرّبها كلها وحرّقها ، وعمها بالقتل والنهب والأسر ، حتى فُقد
منها جميع أنواع الحيوانات ، وتمزق أهلها في جميع أقطار الأرض ، ثم دهمها بعد رحيله
عنها جراد لم يترك بها خضراء ، فاشتدّ بها الغلاء على من تراجع إليها من أهلها ،
وشنع موتهم ، واستمرّت بها مع ذلك الفتن " انتهى من " المواعظ والاعتبار " (3/421)
.
وقد كان لاسم ابن مفلح حضور ظاهر في قصة سقوط ( دمشق ) ، ولكن ليس هو شمس الدين
محمد بن مفلح الفقيه الحنبلي المعروف تلميذ ابن تيمية ، وصاحب الكتب المعتمدة في
المذهب ككتاب " الفروع "، وكتاب " الآداب الشرعية "، وغيرها ، فهذا قد توفي قبل
المحنة أصلا ، توفي سنة (763هـ)، ولم يدرك تيمورلنك ولا سقوط دمشق ، ينظر ترجمته في
" أعيان العصر " للصفدي (5/269) .
بل المقصود هو ابنه قاضي القضاة ، تقي الدين ، إبراهيم بن محمد بن مفلح الحنبلي (
751 – 803هـ)، جاء في ترجمته في " المنهل الصافي " (1/165) ليوسف بن تغري بردي
(ت874هـ) : " كان إماما فقيها عالما فاضلا دينا ، ولي قضاة دمشق ، وحمدت سيرته إلى
أن امتحن في واقعة تيمورلنك ، ومات في شعبان سنة ثلاث وثمانمائة " انتهى .
ومن يطالع تلك المحنة التي تولى أمرها إبراهيم بن محمد بن مفلح ، أدرك ما في حوادث
التاريخ من عظة وعبرة ، من جهة الخيانة التي تعرضت لها دمشق بسبب رجوع العسكر
المصري إلى القاهرة قبل اقتحام تيمورلنك لدمشق ، بدعوى الخوف من حدوث انقلاب هناك ،
وفيها عظة عظيمة في مقدار الخديعة العظيمة التي تعرض لها قاضي القضاة تقي الدين ابن
مفلح ، فقد اطمأن طمأنينة بالغة لتيمورلنك وعهده بالسلم في دخول المدينة ، وقد كان
الأولى أن يستفاد الدرس من سيرة ذلك الجبار الذي ما زالت آثار كارثته في مدينة حلب
لم تجف بعد ، فلم يكن من المعقول أن يطمئن أهل دمشق إلى وعده وعهده ، ولكننا في
الوقت نفسه نلتمس لقاضي القضاة العذر ، فنحن إنما نقدر الظرف بقدر ما اطلعنا من
أخبار في كتب التاريخ ، وهي لا تنقل كل شيء ، وقد كانت المخاوف العظيمة على المدينة
هي الدافع الأول لإبراهيم بن مفلح للقبول بذلك الصلح والعهد ، وليس التواطؤ مع
تيمورلنك ، ولا الخيانة لأمته ودينه ، فرجا أن يكف الله بأس الطاغية بالصلح والسلم
ولو على مال ، كما صالح النبي صلى الله عليه وسلم كفار قريش في الحديبية ، ولكن لم
يكن اجتهاده صوابا ، نسأل الله تعالى أن يعفو عنا وعنه ، وأن يرحم جميع من قضى في
تلك الواقعة ، وفي غيرها من الكوارث التي تعرضت لها الأمة على يد أعدائها .
ونحن ننقل هنا ما حصل في تلك السنة ، من كتاب " النجوم الزاهرة في ملوك مصر
والقاهرة " (12/ 238-246) لأبي المحاسن يوسف بن تغري بردي ، فقد كان قريب العهد من
تلك الواقعة ، وتحدث عنها في كتابه هذا بالتفصيل ، فقال رحمه الله :
" لمّا أصبحوا يوم الجمعة وقد فقدوا السلطان والأمراء والنائب غلّقوا أبواب دمشق ،
وركبوا أسوار البلد ، ونادوا بالجهاد ، فتهيّأ أهل دمشق للقتال ، وزحف عليهم تيمور
بعساكره ، فقاتله الدمشقيون من أعلى السور أشدّ قتال ، وردّوهم عن السور والخندق ،
وأسروا منهم جماعة ممن كان اقتحم باب دمشق ، وأخذوا من خيولهم عدّة كبيرة ، وقتلوا
منهم نحو الألف ، وأدخلوا رؤوسهم إلى المدينة ، وصار أمرهم في زيادة ، فأعيا تيمور
أمرهم ، وعلم أن الأمر يطول عليه ، فأخذ في مخادعتهم ، وعمل الحيلة في أخذ دمشق
منهم .
وبينما أهل دمشق في أشدّ ما يكون من القتال والاجتهاد في تحصين بلدهم ، قدم عليهم
رجلان من أصحاب تيمور من تحت السور ، وصاحا من بعد : الأمير يريد الصلح ، فابعثوا
رجلا عاقلا حتى يحدّثه الأمير في ذلك .
قلت: هذا الذي كان أشار إليه الوالد عند استقراره بغزّة في نيابة دمشق ، وقوله : إن
أهل دمشق عندهم قوّة لدفع تيمور عن دمشق ، وأن دمشق بلد كثيرة الميرة والرّزق ، وهي
في الغاية من التحصين ، وأنه يتوجّه إليها ويقاتل بها تيمور ، فلم يسمع له أحد في
ذلك ، فلعمري لو رأى من لا أعجبه كلام الوالد قتال أهل دمشق الآن ، وشدّة بأسهم ،
وهم بغير نائب ، ولا مدبّر لأمرهم ، فكيف ذاك لو كان عندهم متولي أمرهم بمماليكه ،
وأمراء دمشق وعساكرها ، بمن انضاف إليهم ، لكان يحق له الندم والاعتراف بالتقصير .
انتهى .
ولما سمع أهل دمشق كلام أصحاب تيمور في الصلح وقع اختيارهم في إرسال قاضى القضاة
تقي الدّين إبراهيم بن محمد بن مفلح الحنبلي ، فأرخي من سور دمشق إلى الأرض ،
وتوجّه إلى تيمور ، واجتمع به ، وعاد إلى دمشق ، وقد خدعه تيمور بتنميق كلامه ،
وتلطّف معه في القول ، وترفق له في الكلام ، وقال له : هذه بلدة الأنبياء والصحابة
، وقد أعتقتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة عنّي وعن أولادي ، ولولا حنقي من
( سودون ) نائب دمشق عند قتله لرسولي ما أتيتها ، وقد صار ( سودون ) المذكور في
قبضتي وفي أسري ، وقد كان الغرض في مجيئي إلى هنا ، ولم يبق لي الآن غرض إلا العود
، ولكن لا بدّ من أخذ عادتي من التّقدمة من الطّقزات .
وكانت هذه عادته إذا أخذ مدينة صلحا يخرج إليه أهلها من كل نوع من أنواع المأكول
والمشروب والدوابّ والملابس والتّحف تسعة ؛ يسمّون ذلك طقزات ، والطّقز باللّغة
التركيّة : تسعة ، وهذه عادة ملوك التتار إلى يومنا هذا .
فلما صار ابن مفلح بدمشق شرع يخذّل الناس عن القتال ، ويثني على تيمور ودينه وحسن
اعتقاده ثناء عظيما ، ويكفّ أهل دمشق عن قتاله ، فمال معه طائفة من الناس ، وخالفه
طائفة أخرى ، وأبوا إلّا قتاله ، وباتوا ليلة السبت على ذلك ، وأصبحوا نهار السّبت
وقد غلب رأى ابن مفلح على من خالفه ، وعزم على إتمام الصلح ، ونادى في الناس : إنه
من خالف ذلك قتل وهدر دمه ؛ فكفّ الناس عن القتال .
وفى الحال قدم رسول تيمور إلى مدينة دمشق في طلب الطقزات المذكورة ، فبادر ابن مفلح
، واستدعى من القضاة والفقهاء والأعيان والتجار ، حمل ذلك كلّ أحد بحسب حاله ،
فشرعوا في ذلك حتى كمل ، وساروا به إلى باب النصر ليخرجوا به إلى تيمور ، فمنعهم
نائب قلعة دمشق من ذلك ، وهدّدهم بحريق المدينة عليهم إن فعلوا ذلك ، فلم يلتفتوا
إلى قوله ، وقالوا له : أنت احكم على قلعتك ، ونحن نحكم على بلدنا ، وتركوا باب
النصر وتوجهوا ، وأخرجوا الطقزات المذكورة من السور ، وتدلّى ابن مفلح من السور
أيضا ومعه كثير من أعيان دمشق وغيرهم وساروا إلى مخيّم تيمور ، وباتوا به ليلة
الأحد ، وعادوا بكرة الأحد ، وقد استقرّ تيمور بجماعة منهم في عدّة وظائف : ما بين
قضاة القضاة ، والوزير ، ومستخرج الأموال ، ونحو ذلك ، معهم فرمان من تيمور لهم ،
وهو ورقة فيها تسعة أسطر يتضمّن أمان أهل دمشق على أنفسهم وأهليهم خاصّة ؛ فقرئ
الفرمان المذكور على منبر جامع بني أمية بدمشق ، وفتح من أبواب دمشق باب الصغير فقط
، وقدم أمير من أمراء تيمور ، جلس فيه ليحفظ البلد ممّن يعبر إليها من عساكر تيمور
، فمشى ذلك على الشاميّين وفرحوا به . وأكثر ابن مفلح ومن كان توجّه معه من أعيان
دمشق الثّناء على تيمور وبثّ محاسنه وفضائله ، ودعا العامّة لطاعته وموالاته ،
وحثّهم بأسرهم على جمع المال الّذي تقرّر لتيمور عليهم ، وهو ألف ألف دينار ، وفرض
ذلك على الناس كلّهم ، فقاموا به من غير مشقّة لكثرة أموالهم ، فلمّا كمل المال
حمله ابن مفلح إلى تيمور ووضعه بين يديه ، فلمّا عاينه غضب غضبا شديدا ، ولم يرض به
، وأمر ابن مفلح ومن معه أن يخرجوا عنه ، فأخرجوا من وجهه ، ووكّل بهم جماعة حتى
التزموا بحمل ألف تومان ، والتومان عبارة عن عشرة آلاف دينار من الذّهب ، إلّا أنّ
سعر الذهب عندهم يختلف ، وعلى كلّ حال فيكون جملة ذلك عشرة آلاف ألف دينار ،
فالتزموا بها ، وعادوا إلى البلد ، وفرضوها ثانيا على الناس كلّها عن أجرة أملاكهم
ثلاثة أشهر ، وألزموا كلّ إنسان من ذكر وأنثى حرّ وعبد بعشرة دراهم ، وألزم مباشر
كلّ وقف بحمل مال له جرم ، فنزل بالناس باستخراج هذا منهم ثانيا بلاء عظيم ، وعوقب
كثير منهم بالضّرب ، فغلت الأسعار ، وعزّ وجود الأقوات ، وبلغ المدّ القمح - وهو
أربعة أقداح - إلى أربعين درهما فضّة ، وتعطّلت صلاة الجمعة من دمشق ، فلم تقم بها
جمعة إلّا مرتين ، حتى دعي بها على منابر دمشق للسلطان محمود ، ولولي عهده ابن
الأمير تيمورلنك ، وكان السلطان محمود مع تيمور آلة ، كون عادتهم لا يتسلطن عليهم
إلّا من يكون من ذرّية الملوك . انتهى.
ثم قدم ( شاه ملك ) أحد أمراء تيمور إلى مدينة دمشق على أنه نائبها من قبل تيمور .
ثمّ بعد جمعتين منعوا من إقامة الجمعة بدمشق لكثرة غلبة أصحاب تيمور بدمشق ، كلّ
ذلك ونائب القلعة ممتنع بقلعة دمشق ، وأعوان تيمور تحاصره أشدّ حصار ، حتى سلّمها
بعد تسعة وعشرين يوما ، وقد رمى عليها بمدافع ومكاحل لا تدخل تحت حصر ، يكفيك أن
التمريّة من عظم ما أعياهم أمر قلعة دمشق بنوا تجاه القلعة قلعة من خشب ، فعند
فراغهم من بنائها وأرادوا طلوعها ليقاتلوا من أعلاها من هو بالقلعة ، رمى أهل قلعة
دمشق نفطا فأحرقوها عن آخرها ، فأنشئوا قلعة ثانية أعظم من الأولى وطلعوا عليها
وقاتلوا أهل القلعة .
هذا وليس بالقلعة المذكورة من المقاتلة إلّا نفر يسير دون الأربعين نفرا ، وطال
عليهم الأمر ، ويئسوا من النّجدة ، وطلبوا الأمان ، وسلّموها بالأمان .
قلت : لا شلّت يداهم ! هؤلاء هم الرجال الشجعان . رحمهم الله تعالى .
ولما تكامل حصول المال الذي هو ألف تومان، أخذه ابن مفلح وحمله إلى تيمور؛ فقال
تيمور لابن مفلح وأصحابه: هذا المال بحسابنا إنما هو يسوى ثلاثة آلاف ألف دينار ،
وقد بقي عليكم سبعة آلاف ألف دينار ، وظهر لي أنكم عجزتم .
وكان تيمور لما اتفق أوّلا مع ابن مفلح على ألف ألف دينار يكون ذلك على أهل دمشق
خاصة ، والذي تركته العساكر المصرية من السلاح والأموال يكون لتيمور ، فخرج إليه
ابن مفلح بأموال أهل مصر جميعها ، فلما صارت كلها إليه ، وعلم أنه استولى على أموال
المصريين ألزمهم بإخراج أموال الذين فرّوا من دمشق ، فسارعوا أيضا إلى حمل ذلك كله
، وتدافعوا عنده حتى خلص المال جميعه ، فلما كمل ذلك ألزمهم أن يخرجوا إليه جميع ما
في البلد من السلاح جليلها وحقيرها ، فتتبّعوا ذلك ، وأخرجوه له حتى لم يبق بها من
السلاح شيء ، فلمّا فرغ ذلك كلّه قبض على ابن مفلح ورفقته ، وألزمهم أن يكتبوا له
جميع خطط دمشق وحاراتها وسككها ، فكتبوا ذلك ودفعوه إليه ، ففرّقه على أمرائه ،
وقسم البلد بينهم ، فساروا إليها بمماليكهم وحواشيهم ، ونزل كلّ أمير في قسمه ،
وطلب من فيه ، وطالبهم بالأموال ، فحينئذ حلّ بأهل دمشق من البلاء ما لا يوصف ...
واستمرّ هذا البلاء والعذاب بأهل دمشق تسعة عشر يوما ، آخرها يوم الثلاثاء ثامن
عشرين شهر رجب من سنة ثلاث وثمانمائة ، فهلك في هذه المدّة بدمشق بالعقوبة والجوع
خلق لا يعلم عددهم إلّا الله تعالى " انتهى.
والله أعلم .