الحمد لله.
أولا :
الْقَسَامَةِ هي الْأَيْمَانُ الْمُكَرَّرَةُ فِي دَعْوَى الْقَتْلِ .
وفي " الشرح الممتع " (14/ 193) :
" صفة القسامة أن يدعي قومٌ أن مورِّثَهم قتله فلان ، ويحلفون على أنه هو القاتل ،
ويكررون الأيمان ، فإذا فعلوا ذلك وتمت شروط القسامة : أُعطي المدَّعَى عليه لهؤلاء
يقتلونه ، فليس فيها بيِّنة ، وإنما فيها هذه الأيمان فقط " .
والأصل فيها حديث سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : "
انْطَلَقَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَهْلِ بْنِ زَيْدٍ، وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ
بْنِ زَيْدٍ إلَى خَيْبَرَ , وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ , فَتَفَرَّقَا , فَأَتَى
مُحَيِّصَةُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ - وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ
قَتِيلاً - فَدَفْنه , ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ , فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إلَى النَّبِيِّ - صلى
الله عليه وسلم - فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ , فَقَالَ النَّبِيُّ -
صلى الله عليه وسلم -: ( كَبِّرْ , كَبِّرْ ) - وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ – [ أي
أصغرهم ] فَسَكَتَ، فَتَكَلَّمَا.
فَقَالَ: ( أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ , أَوْ صَاحِبَكُمْ ؟ )
قَالُوا : وَكَيْفَ نَحْلِفُ , وَلَمْ نَشْهَدْ , وَلَمْ نَرَ؟ ، قَالَ: (
فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِيناً ؟ ) ، قَالُوا: كَيْفَ بِأَيْمَانِ
قَوْمِ كُفَّارٍ؟ فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عِنْدِهِ .[
أي أعطاهم ديته من بيت المال ] " .
وَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ : " فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه
وسلم -: ( يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ , فَيُدْفَعُ
بِرُمَّتِهِ ) [ أَي أَسيراً مقيداً بحبله ] , قَالُوا : أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ
كَيْفَ نَحْلِفُ ؟ قَال : ( فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ
؟ ) ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَوْمٌ كُفَّارٌ " .
والحديث أخرجه البخاري (6142) ، ورواه مسلم (1669 ) .
قال ابن دقيق العيد :
" وَمَوْضِعُ جَرَيَانِ الْقَسَامَةِ : أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ لَا يُعْرَفُ
قَاتِلُهُ ، وَلَا تَقُومُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَيَدَّعِي وَلِيُّ الْقَتِيلِ
قَتْلَهُ عَلَى وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ ، وَيَقْتَرِنُ بِالْحَالِ : مَا يُشْعِرُ
بِصِدْقِ الْوَلِيِّ ، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الشُّرُوطِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ ، أَوْ
بَعْضِهِمْ ، وَيُقَالُ لَهُ : " اللَّوَثُ " ؛ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ "
.
انتهى من " إحكام الأحكام " (2/ 222) .
فمن أهم شروط القسامة : وجود " اللَّوْثَ " ؛ وهي القرينة المشعرة بصدق أهل القتيل
، كوجود العداوة الظاهرة بين القتيل وأهل المحلة التي وجد فيها مقتولا ، أو وجود
تهديد سابق من المتهم بالقتل ، أو نحو ذلك من القرائن التي تتفاوت بتفاوت الأحوال .
وينظر حول " اللوث " ، وصوره عند الفقهاء : "الموسوعة الفقهية الكويتية" (35/342)
وما بعدها.
ثانيا:
اختلف العلماء رحمهم الله في المدعى عليه في القسامة : هل يشترط أن يكون معينا ، أم
لا ؟
قال ابن قدامة رحمه الله :
" وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَى غَيْرِ الْمُعَيَّنِ ، فَلَوْ كَانَتْ
الدَّعْوَى عَلَى أَهْلِ مَدِينَةٍ ، أَوْ محَلَّةٍ ، أَوْ وَاحِدٍ غَيْرِ
مُعَيَّنٍ ، أَوْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ ، لَمْ تُسْمَعْ
الدَّعْوَى ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : تُسْمَعُ ، وَيُسْتَحْلَفُ خَمْسُونَ مِنْهُمْ "
انتهى من "المغني " (8/ 489) .
ثم وقع الخلاف بين من يشترط التعيين ، فيما إذا كانت دعوى القتل على جماعة
معينين:
فقيل : لا تصح الدعوى ، سواء كانت بقتل عمد أو غيره ، وهو مذهب الحنابلة.
وقيل: تصح الدعوى ، سواء كانت بقتل عمد أو غيره ، فإذا تمت القسامة بشروطها : قُتلت
الجماعة المعينة ، إذا كان عمدا مستوفيا شروط القصاص ، قاله بعض الشافعية.
وقيل: إن كانت الدعوى بقتل عمد : لم تصح إلا على واحد . وإن كانت بغيره : صحت على
الجماعة ، فتجب الدية عليهم ؛ وهو قول مالك والشافعي .
وللتوسع في المسألة ينظر : " المغني "(8/ 509) ، و " المنتقى من فرائد الفوائد "
لابن عثيمين (ص: 189) .
وإلى إمكان إقامة الدعوى على أكثر من واحد يميل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله حيث
قال :
"ولو قال قائل : نجعلها كغيرها من الدعاوِي ، بمعنى إن ادعى على واحد أجرينا عليه
القسامة ، وإن ادعى على اثنين فأكثر : أجرينا عليهم القسامة ؛ لأنه من الممكن أن
يدعي المدعون أن شخصين قتلاه مع التواطؤ " انتهى من " الشرح الممتع " (14/ 203) .
ثالثا:
وهل يترتب على القسامة قصاص ، أم لا ؟
جاء في " الموسوعة الفقهية الكويتية " (33/ 179):
" لا خلاف بين الفقهاء في حجية القسامة ، ووجوب الدية على عواقل المدعى عليهم إذا
كان القتل خطأ، وإنما الخلاف بينهم فيما يجب بها ، إذا كان القتل المدعى به عمدا.
فذهب المالكية والشافعي في القديم والحنابلة : إلى وجوب القود ، وبه قال الزهري
وربيعة وأبو ثور وغيرهم .
ويرى الحنفية ، والشافعية في الجديد : وجوب الدية وعدم وجوب القصاص " انتهى .
والقول بترتب القصاص إذا تمت شروطه أقرب لصراحة الروايات الدالة عليه ، وهو قول
أكثر أهل العلم .
قال النووي :
"وهو قول الزهري وربيعة وأبي الزناد ومالك وأصحابه والليث ، والأوزاعي وأحمد وإسحاق
وأبي ثور وداود ، وهو قول الشافعي في القديم ، وروى عن ابن الزبير وعمر بن عبد
العزيز . قال أبو الزناد : قلنا بها وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون
، إني لأرى أنهم ألف رجل ؛ فما اختلف منهم اثنان " انتهى من " شرح النووي على مسلم"
(11/ 143) .
وينظر : " إحكام الأحكام " ، لابن دقيق العيد (2/ 223) .
على أننا ننبه هنا إلى أن هذا هو نظر في المسألة من حيث العموم ، والبحث الفقهي ،
وأما النظر في الواقعة المعينة ، والحكم فيها بالقسامة من عدمه ، فإنما يرجع فيه
إلى القضاء الشرعي ، وليس إلى آحاد الناس ، أو البحث العام في المسألة .
والله أعلم .