الحمد لله.
أولا :
التَّمْثِيل والمُثْلَة : هي العقوبة بقطع أطراف الإنسان أو تشويه خلقته ونحو ذلك .
قال ابنُ الأثير رحمه الله تعالى :
" يقال : مَثَلْتُ بالحيوان أمْثُل به مَثْلاً ، إذا قطعت أطرافه وشوّهت به ،
ومَثَلْت بالقَتيل ، إذا جَدَعْت ( أي قطعت ) أنفه ، أو أذنه ، أو مذاكيره ، أو
شيئاً من أطرافه . والاسم : المُثْلة . فأمَّا مَثَّل ، بالتشديد ، فهو للمبالَغة "
انتهى من " النهاية في غريب الحديث " ( 4 / 294 ) .
والأصل في المثلة عدم الجواز ، لثبوت النهي عنها في عدد من الأحاديث الصحيحة ، منها
:
عن عَدِيّ بْن ثَابِتٍ قَالَ : " سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : ( أَنَّهُ نَهَى عَنِ النُّهْبَةِ وَالْمُثْلَةِ
) " رواه البخاري ( 5516 ) .
وعن بريدة رضي الله عنه قال قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( اغْزُوا
بِاسْمِ اللَّهِ ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ،
اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا
وَلِيدًا ...) رواه مسلم ( 1731 ) .
لكن يستثنى من هذا النهي حالة كون المثلة على سبيل القصاص والمعاملة بالمثل .
قال الله تعالى : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ
وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ) النحل / 126.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : " فأمّا التّمثيل في القتل فلا يجوز
إلّا على وجه القصاص ، وقد قال عمران بن حصين رضي اللّه عنهما : " مَا خَطَبَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً إلَّا أَمَرَنَا
بِالصَّدَقَةِ ، وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ " ، حتى الكفار إذا قتلناهم فإنا لا
نمثل بهم بعد القتل ، ولا نجدع آذانهم وأنوفهم ، ولا نبقر بطونهم إلا أن يكونوا
فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم مثل ما فعلوا ، والتّرك أفضل كما قال اللّه تعالى : (
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ
لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ) " انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 28 / 314 ) .
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" وقد أباح اللَّه تعالى للمسلمين أن يمثّلوا بالكفّار إذا مثّلوا بهم ، وإن كانت
المثلة منهيّا عنها . فقال تعالى : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا
عُوقِبْتُمْ بِهِ ) وهذا دليل على أنّ العقوبة بجدع الأنف وقطع الأُذن ، وبقر البطن
ونحو ذلك هي عقوبة بالمثل ليست بعدوان ، والمثل هو العدل " انتهى من " عون المعبود
مع حاشية ابن القيم على سنن أبي داود " ( 12 / 278 ) .
والخلفاء الراشدون في جهادهم وإقامتهم للحدود كانوا متبعين للسنة فلم يكونوا يمثلون
بالقتلى ، وإنما روي عنهم ذلك في حوادث نادرة لمصلحة شرعية رأوها أو رأي ترجح عندهم
وبعضها ليس بثابت عنهم ، فصحّ أن عليا رضي الله عنه حرق الزنادقة بالنار.
فعَنْ عِكْرِمَةَ : " أَنَّ عَلِيًّا رضى الله عنه حَرَّقَ قَوْمًا ، فَبَلَغَ
ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ : لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ ، لأَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ ) ،
وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ بَدَّلَ
دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ) " رواه البخاري ( 3017 ) .
وكما روي أن أبابكر رضي الله عنه حرق اللوطية وبعض البغاة .
روى البيهقي بسنده في " السنن الكبرى " ( 8 / 405 ) عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ :
" أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُمَا فِي خِلَافَتِهِ يَذْكُرُ لَهُ أَنَّهُ وَجَدَ رَجُلًا فِي بَعْضِ
نَوَاحِي الْعَرَبِ يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَمَعَ النَّاسَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ ، فَكَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ قَوْلًا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ: إِنَّ
هَذَا ذَنْبٌ لَمْ تَعْصِ بِهِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ ،
صَنَعَ اللهُ بِهَا مَا قَدْ عَلِمْتُمْ ، نَرَى أَنْ نُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ ،
فَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
أَنْ يُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى
خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ ) .
وقال البيهقي : " هَذَا مُرْسَلٌ " .
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى :
" قصّة الفُجَاءَةِ.
وَاسْمُهُ إِيَاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عُمَيْرَةَ بْنِ
خُفَافٍ ، من بَنِي سُلَيْمٍ ، قاله ابن إِسحاق ، وقد كان الصِّدِّيق حرَّق
الْفُجَاءَةَ بالبقيع في المدينة ، وكان سببه أنّه قدم عليه فزعم أنّه مسلم ، وسأل
منه أن يجهّز معه جيشا يقاتل به أهل الرّدّة ، فجهّز معه جيشا ، فلمّا سار جعل لا
يمرّ بمسلم ولا مرتدّ إلّا قتله وأخذ ماله ، فلمّا سمع الصّدّيق بعث وراءه جيشا
فردّه ، فلمّا أمكنه بعث به إلى البقيع ، فجمعت يداه إلى قفاه وألقي في النّار،
فحرَّقه وهو مقموط [ أي قد ربطت يداه بالحبل] " انتهى من " البداية والنهاية " ( 9
/ 456 – 457 ) .
ثانيا :
جاء الأمر النبوي باتباع سنة الخلفاء الراشدين .
فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (
إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ
بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا
بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ
فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ) رواه أبو داود
(3991) ، وصححه الألباني في " مشكاة المصابيح " برقم (165) .
وسنة الخلفاء الراشدين تشمل معنيين :
المعنى الأول : عموم طريقتهم وسيرتهم في التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم
وسيرته .
قال علي القاري رحمه الله تعالى :
"( فعليكم بسنتي ) اسم فعل بمعنى الزموا ، أي بطريقتي الثابتة عني واجبا أو مندوبا
( وسنة الخلفاء الراشدين ) فإنهم لم يعملوا إلا بسنتي ؛ فالإضافة إليهم إما لعملهم
بها ، أو لاستنباطهم واختيارهم إياها " انتهى . " مرقاة المفاتيح " ( 1 / 373 ) .
وقال الشوكاني رحمه الله تعالى :
" رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطب أصحابه أن يقتدوا بما يشاهدونه يفعله من سنته
، وبما يشاهدون من أفعال الخلفاء الراشدين فإنهم المبلغون عنه العارفون بسنته
المقتدون بها ، فكل ما يصدر عنهم في ذلك صادر عنه " .
انتهى من " الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني " ( 5 / 2181 – 2182 ) .
المعنى الثاني : ما أفتوا به أو قضوا به في مسائل جزئية معينة .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" فقرن سنة خلفائه بسنته ، وأمر باتباعها كما أمر باتباع سنته ، وبالغ في الأمر بها
حتى أمر بأن يعض عليها بالنواجذ ، وهذا يتناول ما أفتوا به وسنوه للأمة وإن لم
يتقدم من نبيهم فيه شيء ، وإلا كان ذلك سنته ، ويتناول ما أفتى به جميعهم أو أكثرهم
أو بعضهم لأنه علق ذلك بما سنه الخلفاء الراشدون ، ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك وهم
خلفاء في آن واحد ، فعلم أن ما سنه كل واحد منهم في وقته فهو من سنة الخلفاء
الراشدين " انتهى من " إعلام الموقعين " ( 5 / 581 ) .
واتباع ما أفتوا به أو قضوا به إذا لم يخالفوا في ذلك نصا من نصوص الكتاب والسنة ؛
فيه تفصيل كالآتي :
1- سنة الخلفاء الراشدين ، التي لم يعرف أن أحدا من الصحابة خالفهم فيها فهذه عدّها
أهل العلم حجة .
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" والذي لا ريب فيه أنَّ ما كان من سنَّة الخلفاء الراشدين الذي سنوه للمسلمين ،
ولم ينقل أنَّ أحداً من الصحابة خالفهم فيه ، فهذا لا ريب أنَّه حجَّة بل إجماع ،
وقد دلَّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
المهديين من بعدي ) " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 20 / 573 – 574 ) .
2- ما أفتى أو قضى به أحد الخلفاء الراشدين وخالفه غيره من الخلفاء الراشدين .
ففهي هذه الحالة لا يكون قول أحدهما أولى من الآخر فيرجح بين أقوالهم .
3- ما أفتى به أحد الخلفاء الراشدين ولم يخالفه أحد من الخلفاء الراشدين ؛ وإنما
خالفه غيرهم من الصحابة .
فاختلف أهل العلم في هذا ، فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن قول الخليفة الراشد مقدم
على غيره .
قال ابن رجب رحمه الله تعالى :
" ولو قال بعض الخلفاء الأربعة قولا ، ولم يخالفه منهم أحد ، بل خالفه غيره من
الصّحابة ، فهل يقدم قوله على قول غيره ؟ فيه قولان أيضا للعلماء ، والمنصوص عن
أحمد أنّه يقدم قوله على قول غيره من الصّحابة ، وكذا ذكره الخطابي وغيره ، وكلام
أكثر السّلف يدل على ذلك " .
انتهى من " جامع العلوم والحكم " ( 2 / 776 ) .
وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" فما رواه أو قاله الخلفاء حجة على من خالفهم ، لا سيما الصديق لقوله صلى الله
عليه وسلم : ( عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) ، وقوله : (
إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا ) " انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 25 / 9 ) .
والله أعلم .