أهل الحديث هم أهل الأخلاق الفاضلة
أهل الحديث هنا في الهند وقحون جداً ، ويتصرفون كما لو أنهم قد ضمنوا جنة الله ، إنهم ليسوا كأهل السنة ، إنهم يرفضون التقليد والفقه ،إذا كانوا على حق فما بالهم يتصرفون هكذا ؟!
الجواب
الحمد لله.
الواجب على المسلمين عامة ، وطلبة العلم والمنتسبين إلى السنة والحديث خاصة ، أن
يتزينوا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، فتلك حليتهم التي يرتفعون بها عند الله ،
وينالون بها مراتب الجنان ، لا بالانتساب اللفظي إلى أهل الحديث ، ولا بالانتساب
الشكلي إلى أهل العلم والفقه ، فكل هذه العلوم إنما هي وسائل لتحقيق العبودية لله
سبحانه ، وأعظم العبودية أن تراقب الله تعالى في معاملتك لخلقه ، فتحسن إليهم ،
وتشفق عليهم ، وتتواضع لهم ، وتتجنب الاستطالة عليهم ، حتى لو اعتقدت أنك على الحق
والسنة ، وغيرك على المعصية والبدعة ، فليس ذلك بمجيز لك أن لا تعاملهم بما أمرك
الله عز وجل به ، قال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )
النحل/125، وقال سبحانه : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ
أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ) المؤمنون/96، وقال جل وعلا : ( وَلَا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ )
فصلت/34-35، وقال عليه الصلاة والسلام : ( خالق الناس بخلق حسن ) رواه الترمذي
(1987) وحسنه الألباني في " صحيح الترمذي ".
وهذا ما امتثله أصحاب الحديث الأوائل ، فقال ابن سيرين رحمه الله : كانوا يتعلمون
الهدي كما يتعلمون العلم ، وقال الحسن البصري : إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه
السنتين ثم السنتين ، وقال أيضا : كان طالب العلم يرى ذلك في سمعه وبصره وتخشعه ،
وقال مخلد بن الحسين لابن المبارك : نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من
الحديث ، وكان الليث بن سعد كثيرا ما يقول لأصحاب الحديث : تعلموا الحلم قبل العلم
، انظر هذه الآثار وغيرها في كتاب " تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم
" لابن جماعة .
وقد جعل المحققون من أهل الحديث والسنة الأخلاق الفاضلة في صلب تعريف أهل السنة ،
وفي أركان مذهبهم ومنهجهم . فقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – في خواتم
العقيدة الواسطية :
" ثم هم مع هذه الأصول يدينون بالنصيحة للأمة ، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه
وسلم : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم
) وقوله : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد ، إذا اشتكى منه
عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )، ويأمرون بالصبر عند البلاء ، والشكر عند
الرخاء ، والرضا بمر القضاء ، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ،
ويعتقدون معنى قوله : ( أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا )، ويندبون إلى أن تصل من
قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ؛ ويأمرون ببر الوالدين ، وصلة الأرحام ،
وحسن الجوار ، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل والرفق بالمملوك ؛
وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي ، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق ؛ ويأمرون
بمعالي الأخلاق وينهون عن سفسافها " .
انتهى باختصار من " مجموع الفتاوى " (3/ 159) .
ويقول أيضا رحمه الله :
" نحن لا نعني بـأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته ، بل نعني بهم
: كل من كان أحق بحفظه ، ومعرفته ، وفهمه ظاهراً أو باطناً ، واتباعه باطناً
وظاهراً ، وكذلك أهل القرآن .
وأدنى خصلة في هؤلاء محبة القرآن والحديث ، والبحث عنهما وعن معانيهما ، والعمل بما
علموه من موجبهما ، ففقهاء الحديث أخبر بالرسول من فقهاء غيرهم ، وصوفيتهم أتبع
للرسول من صوفية غيرهم ، وأمراؤهم أحق بالسياسة النبوية من غيرهم ، وعامتهم أحق
بموالاة الرسول من غيرهم .
وأهل العلم فكانوا يقولون : هم الأبدال ؛ لأنهم أبدال الأنبياء ، وقائمون مقامهم
حقيقة ، ليسوا من المعدمين الذين لا يعرف لهم حقيقة ، كل منهم يقوم مقام الأنبياء
في القدر الذي ناب عنهم فيه: هذا في العلم والمقال ، وهذا في العبادة والحال ، وهذا
في الأمرين جميعاً . وكانوا يقولون : هم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة ،
الظاهرون على الحق ؛ لأن الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسله معهم . وهو الذي
وعد الله بظهوره على الدين كله ، وكفى بالله شهيداً " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " (4/95-97) .
هذه هي أخلاق أهل الحديث الذين عرفهم علماؤنا عبر التاريخ ، وصنفوا المصنفات الكبار
في بيان معتقدهم وصفاتهم وأخلاقهم ، ومن أجمل ما قالوه أيضا في ذلك ما جاء في كتاب
" المحدث الفاصل " (ص/1-4) للإمام الرامهرمزي رحمه الله (ت360هـ) حيث يقول :
" اعترضت طائفةٌ ممن يشنأ الحديث ويبغض أهله ، فقالوا بتنقص أصحاب الحديث والإزراء
بهم ، وأسرفوا في ذمهم والتقوّل عليهم ، وقد شرّف الله الحديث وفضّل أهلَه ، وأعلى
منزلته ، وحكمه على كل نحلة ، وقدّمه على كل علم ، ورفع من ذكر من حمله وعني به ؛
فهم بيضة الدين ، ومنار الحجة ، وكيف لا يستوجبون الفضيلة ، ولا يستحقون الرتبة
الرفيعة ، وهم الذين حفظوا على الأمة هذا الدين ، وأخبروا عن أنباء التنزيل ،
وأثبتوا ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، وما عظمه الله عز وجل به من شأن الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فنقلوا شرائعه ، ودوّنوا مشاهده ، وصنفوا أعلامه ودلائله ،
وحقّقوا مناقب عترته ، ومآثر آبائه وعشيرته ، وجاءوا بسير الأنبياء ، ومقامات
الأولياء ، وأخبار الشهداء والصديقين ، وعبروا عن جميع فعل النبي صلى الله عليه
وسلم في سفره وحضره ، وظعنه وإقامته ، وسائر أحواله من منامٍ ويقظة ، وإشارة وتصريح
وصمت ونطق ، ونهوض وقعود ، ومأكل ومشرب ، وملبس ومركب ، وما كان سبيله في حال الرضا
والسخط والإنكار والقبول ، حتى القلامة من ظفره ما كان يصنع بها ، والنخاعة من فيه
أين كان وجهتها ، وما كان يقوله عند كل فعل يحدثه ويفعله ، وعند كل موقف ومشهد
يشهده ، تعظيمـًا له صلى الله عليه وسلم ، ومعرفة بأقدار ما ذكر عنه ، وأسند إليه ؛
فمن عرف للإسلام حقّه وأوجب للرسول حرمته أكبر أن يحتقر من عظم الله شأنه ، وأعلى
مكانه ، وأظهر حجته ، وأبان فضيلته ، ولم يرتق بطعنه إلى حزب الرسول وأتباع الوحى
وأوعية الدين ونقلة الأحكام والقرآن الذين ذكرهم الله عز وجل في التنزيل فقال : (
والذين اتبعوهم بإحسان ) فإنك إذا أردت التوصل إلى معرفة هذا القرن لم يذكرهم لك
إلا راو للحديث متحقق به ، أو داخل في حيز أهله ، ومَن سوى ذلك فربك بهم أعلم "
انتهى .
ونحن بهذا ندعو أنفسنا وجميع المسلمين ، ومنهم السائل المكرم ، ومن وصفهم أيضا في
سؤاله، ومن اتهمهم من المنتسبين إلى أهل الحديث ، ندعو الجميع أن يتحلى بأخلاق
النبي صلى الله عليه وسلم ، فهي النجاة لنا جميعا ، وهي الاختبار الحقيقي لمن يدعي
متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته ، كما قال سبحانه وتعالى : ( قُلْ إِنْ
كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) آل عمران/31.
كما ندعو السائل الكريم إلى الحذر من الميل في الحكم على من يخالفه ، أو يشاحنه ،
بل الذي عليه ، كما على كل مسلم ، أن يتحلى بالإنصاف في أمره كله ، ولو مع عدوه ،
فضلا عن أن يكون أخاه في الدين ، ولو خالفه في أمر من أمره ؛ قال الله تعالى : (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
المائدة/8 .
وليحذر من سعي الشيطان الحثيث ، وكيده ، لإيقاع العداوة والشحناء بين المؤمنين ،
عَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
: ( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ
الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ) رواه مسلم (2812) .
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ
وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ ؟ قَالُوا : بَلَى !! قَالَ : صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ
؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ ) رواه الترمذي (2509) وقال :
هذا حديث صحيح ، وصححه الألباني "صحيح وضعيف الترمذي" (2509) .
والله أعلم .