الحمد لله.
يقول الألوسي رحمه الله : " الشقاء في كلامهم [ يعني المفسرين ] يحتمل أن يكون بمعناه الحقيقي وهو ضد السعادة " انتهى من " روح المعاني " (8/466) .
فقد بعث صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة ، وبالرحمة العامة في جميع جوانب الحياة ، والرحمة والسماحة أسباب السعادة والهناء ، وبواعث التفاؤل والإقبال ، أما الشقاء والعذاب والعنت فلا تتسبب إلا بالحزن واليأس والانقطاع عن أسباب العيش في هذه الدنيا .
لكن فلسفة المؤمن في سعادته وإقباله ، فلسفة مغايرة لأصحاب المتع والشهوات ؛ لأنه يقبل على الدنيا وهو ينظر إليها أنها مزرعة الآخرة ، ولا يغرس ولا يبني فيها ، إلا لأنها طريق إلى الله سبحانه وتعالى ، وحين يتمتع بملذاتها فإنه يستحضر دائما شكر المنعم جل وعلا ، وعظيم ما أعد الله للعباد في الجنان ، ويطلب في تمتعه نفع الآخرين والإحسان إليهم ، وخاصة أهله وجيرانه وأصدقاءه وجميع من حوله ، يحتسب في إدخال السرور على قلوبهم ، ويعتقد أن جلب المسرات إلى الناس في كل صغيرة وكبيرة عمل صالح يتقرب به إلى الله عز وجل ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ ) رواه الطبراني (12/453) ، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (955) .
فهل ترى دينا يعد السرور
الذي تدخله على مسلم أحب الأعمال إلى الله ، يستحق أن يوصف بعد ذلك بأنه دين نكد
العيش ودوام الأحزان !!
أليست هذه جناية على التصور الإسلامي لفلسفة الحياة !!
ومن يتجرأ على وسم الإسلام بهذا الوسم فليأتنا بآية واحدة ، أو حديث نبوي شريف واحد
على الأقل ، يحث الناس على الحزن والقنوط ، ويحذر الناس من أسباب الفرح والسرور ،
ويدفع النفوس المسلمة في أحوالها الجمعية والإفرادية إلى ثقافة الانعزال والانطواء
على الذات في انتظار مصير الموت المحتوم !!
فإن لم يجد هذا المدعي شيئا من ذلك فليعلم قدر جنايته وبطلان ادعائه .
وإذا كان نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام يصفه أصحابه بأنه كثير التبسم ، حتى قال
عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ رضي الله عنه : " مَا رَأَيْتُ أَحَدًا
كَانَ أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
رواه الإمام أحمد في " المسند " (29/245) ، وحسنه المحققون .
وفي " صحيح مسلم " (2475) عن جَرِير بْن عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قال : " مَا
حَجَبَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ ،
وَلَا رَآنِي إِلَّا ضَحِكَ " .
وكذلك حين تستجمع الأحاديث النبوية التي وردت في مواقف ضحك فيها النبي صلى الله
عليه وسلم تجدها تتجاوز العشرات .
وفي ذلك رسائل واضحة تعبر عن حقيقة الدين ، وأن وصفه بالتحزين خروج به عن مقصده
الذي بعث لأجله ، وهو مقصد الهداية إلى السعادة في الدنيا والآخرة .
يقول ابن قيم الجوزية رحمه
الله :
" منزلة الحزن ، ليست من المنازل المطلوبة ، ولا المأمور بنزولها ، وإن كان لا بد
للسالك من نزولها ، ولم يأت الحزن في القرآن إلا منهيا عنه ، أو منفيا :
فالمنهي عنه كقوله تعالى : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا ) [آل عمران: 139] ، وقوله : (
ولا تحزن عليهم ) [الحجر: 88] في غير موضع ، وقوله : ( لا تحزن إن الله معنا )
[التوبة: 40]
، والمنفي كقوله : ( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [البقرة: 38] .
وسر ذلك أن الحزن مُوَقِّفٌ غيرُ مُسَيِّرٍ [ أي : يوقف الإنسان عن العمل الصالح] ،
ولا مصلحة فيه للقلب ، وأحب شيء إلى الشيطان أن يحزن العبد ليقطعه عن سيره ، ويوقفه
عن سلوكه ، قال الله تعالى : ( إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا )
[المجادلة: 10] ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة أن يتناجى اثنان منهم دون
الثالث ، لأن ذلك يحزنه .
فالحزن ليس بمطلوب ، ولا مقصود ، ولا فيه فائدة . وقد استعاذ منه النبي صلى الله
عليه وسلم ، فقال : ( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ) فهو قرين الهم ، والفرق
بينهما أن المكروه الذي يرد على القلب ، إن كان لما يستقبل أورثه الهم ، وإن كان
لما مضى أورثه الحزن ، وكلاهما مضعف للقلب عن السير ، مقتر للعزم .
ولكن نزول منزلته ضروري بحسب الواقع ، ولهذا يقول أهل الجنة إذا دخلوها : ( الحمد
لله الذي أذهب عنا الحزن ) [فاطر: 34] فهذا يدل على أنهم كان يصيبهم في الدنيا
الحزن ، كما يصيبهم سائر المصائب التي تجري عليهم بغير اختيارهم .
وأما قوله تعالى : ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه
تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون ) [التوبة: 92] ، فلم
يمدحوا على نفس الحزن ، وإنما مدحوا على ما دل عليه الحزن من قوة إيمانهم ، حيث
تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعجزهم عن النفقة ، ففيه تعريض بالمنافقين
الذين لم يحزنوا على تخلفهم ، بل غبطوا نفوسهم به .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( ما يصيب المؤمن من هم ولا نصب
ولا حزن إلا كفر الله به من خطاياه ) ، فهذا يدل على أنه مصيبة من الله يصيب بها
العبد يكفر بها من سيئاته ، لا يدل على أنه مقام ينبغي طلبه واستيطانه .
وأما حديث هند بن أبي هالة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه كان متواصل
الأحزان " ، فحديث لا يثبت ، وفي إسناده من لا يعرف .
وكيف يكون متواصل الأحزان ، وقد صانه الله عن الحزن على الدنيا وأسبابها ، ونهاه عن
الحزن على الكفار ، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ فمن أين يأتيه الحزن ؟ .
بل كان دائم البشر ، ضحوك السن ، كما في صفته " الضحوك القتال " صلوات الله وسلامه
عليه .
وأما الخبر المروي : ( إن الله يحب كل قلب حزين ) فلا يعرف إسناده ، ولا من رواه ،
ولا تعلم صحته .
وعلى تقدير صحته ، فالحزن مصيبة من المصائب التي يبتلي الله بها عبده ، فإذا ابتلى
به العبد فصبر عليه ، أحب صبره على بلائه .
وأما الأثر الآخر : ( إذا أحب الله عبدا نصب في قلبه نائحة ، وإذا أبغض عبدا جعل في
قلبه مزمارا ) فأثر إسرائيلي ، قيل : إنه في التوراة ، وله معنى صحيح ، فإن المؤمن
حزين على ذنوبه ، والفاجر لاه لاعب ، مترنم فرح .
وأما قوله تعالى عن نبيه إسرائيل : ( وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ) [يوسف: 84]
، فهو إخبار عن حاله بمصابه بفقد ولده ، وحبيبه ، وأنه ابتلاه بذلك كما ابتلاه
بالتفريق بينه وبينه .
وأجمع أرباب السلوك على أن حزن الدنيا غير محمود ، إلا أبا عثمان الحيري ، فإنه قال
: الحزن بكل وجه فضيلة ، وزيادة للمؤمن ، ما لم يكن بسبب معصية ، قال : لأنه إن لم
يوجب تخصيصا ، فإنه يوجب تمحيصا .
فيقال : لا ريب أنه محنة وبلاء من الله ، بمنزلة المرض والهم والغم ، وأما إنه من
منازل الطريق ، فلا " انتهى من " مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين
" (1/500-503) .
وأما ما ورد في السؤال من
كلام الحسن البصري رحمه الله : " إن المؤمن يصبح حزينا ويمسي حزينا ، ويكفيه ما
يكفي العنيزة " رواه ابن أبي شيبة في " المصنف " (7/188) .
فهي آثار معلومة عنه وعن غيره ، ورد نحوها الكثير ، وأوردها ابن أبي الدنيا في
كتابه " الهم والحزن " كلها يريد بها أصحابها إطلاق الحزن على التقوى ، والخشية من
عقاب الله عز وجل .
أما الحزن الذي هو الهم في
الدنيا ، والانطواء على الذات ، والتشاؤم من كل شيء ، فهذا ليس بحزن محمود كما سبق
، وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يقصده من أثنى على الحزن من السلف
.
فعن ابن الأوزاعي قال : " سئل أبي عن الخشوع ؟ فقال : الحزن . رواه ابن أبي الدنيا
في " الهم والحزن " (ص 50)
وعن أبي سعيد البصري قال : المحزون خائف ، ومن خاف اتقى ، ومن اتقى حذر ، ومن حذر
حاسب نفسه " انتهى من " الهم والحزن " (ص 62) .
وقال إبراهيم بن أدهم :
الحزن حزنان ، فحزن لك ، وحزن عليك :
فالحزن الذي هو لك : حزنك على الآخرة ، وخيرها .
والحزن الذي هو عليك : حزنك على الدنيا وزينتها . رواه ابن أبي الدنيا في " الهم
والحزن " (ص43) .
فتأمل كيف فسروا الحزن هنا بالخشوع والخوف من الله سبحانه .
وثمة ملحظ آخر أيضا يجب
مراعاته عند قراءة هذه الآثار ، وهي طبيعة النفس التي صدر عنها ذلك الكلام ، فإذا
كانت نفسه جبلت على الحزن والتباعد عن الفرح ، كما هو حال كثير من الناس ، فمثله
ستصدر عنه الأقوال المعبرة عن ذلك ، فتفهم في إطار منطلقها النفسي ، وليس في إطار
من التأصيل الشرعي . فالحسن البصري مثلا قال عنه يونس : كان رجلا محزونا . فلا تؤخذ
أقواله في التحزين على أنها تأسيس شرعي لمقام الحزن في السلوك إلى الله سبحانه ، بل
تؤخذ على أنها تعبير عما يجده في قلبه ونفسه ، وما يجده لا ينبغي أن يمنح صفة
التعميم والإطلاق .
روى ابن أبي الدنيا في " الهم والحزن " (54) عن رابعة العدوية : أنها سمعت رجلا ،
يقول : واحزناه . فقالت : لا تقل هكذا ، وقل : واقلة حزناه . إنك لو كنت حزينا لم
ينفعك عيش .
والله أعلم .