الحمد لله.
وإذا لم يكن في مكونات هذه الأطعمة شيء من لحم الخنزير أو دهنه ، أو غير ذلك مما يؤخذ منه : فلا بأس بأكلها وإهدائها .
وإذا حك في صدرك شيء ، أو شككت فيه ، أو تورعت عن أكل شيء من هذه الأطعمة ، أو ما سواها : فلا حرج عليك في ذلك ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ ) رواه الترمذي (2518) وصححه الألباني .
ولكن في هذه الحالة لا بأس بإهدائها لغيرك ، مسلماً كان أو كافراً .
فما تركه المسلم تورعا واحتياطا لابأس أن يعطيه لغيره لينتفع به .
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تورع لنفسه ولم يلزم غيره ، فعن رَجُلٍ
مِنَ الْأَنْصَارِ ، قَالَ : " خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْقَبْرِ يُوصِي الْحَافِرَ : ( أَوْسِعْ مِنْ
قِبَلِ رِجْلَيْهِ ، أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ، فَلَمَّا رَجَعَ
اسْتَقْبَلَهُ دَاعِي امْرَأَةٍ فَجَاءَ وَجِيءَ بِالطَّعَامِ فَوَضَعَ يَدَهُ ،
ثُمَّ وَضَعَ الْقَوْمُ ، فَأَكَلُوا ، فَنَظَرَ آبَاؤُنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلُوكُ لُقْمَةً فِي فَمِهِ ، ثُمَّ قَالَ : أَجِدُ
لَحْمَ شَاةٍ أُخِذَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهَا ، فَأَرْسَلَتِ الْمَرْأَةُ ،
قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَى الْبَقِيعِ يَشْتَرِي لِي
شَاةً ، فَلَمْ أَجِدْ فَأَرْسَلْتُ إِلَى جَارٍ لِي قَدِ اشْتَرَى شَاةً ، أَنْ
أَرْسِلْ إِلَيَّ بِهَا بِثَمَنِهَا، فَلَمْ يُوجَدْ ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى
امْرَأَتِهِ فَأَرْسَلَتْ إِلَيَّ بِهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَطْعِمِيهِ الْأُسَارَى) رواه أبو داود (3332) ، وصححه
الألباني .
قال الشوكاني في " نيل الأوطار " (5385) "وَفِيهِ : تَجَنُّبُ مَا كَانَ مِنْ
الْمَأْكُولَاتِ حَرَامًا أَوْ مُشْتَبِهًا ، وَعَدَمُ الِاتِّكَالِ عَلَى
تَجْوِيزِ إذْنِ مَالِكِهِ بَعْدَ أَكْلِهِ .
وَفِيهِ أَيْضًا : أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ مَا كَانَ كَذَلِكَ إلَى مَنْ يَأْكُلُهُ
كَالْأُسَارَى وَمَنْ كَانَ عَلَى صِفَتِهِمْ " انتهى .
وروى مسلم (2004) عن عبد الله بن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : " كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْتَبَذُ لَهُ أَوَّلَ اللَّيْلِ
فَيَشْرَبُهُ إِذَا أَصْبَحَ يَوْمَهُ ذَلِكَ ، وَاللَّيْلَةَ الَّتِي تَجِيءُ،
وَالْغَدَ، وَاللَّيْلَةَ الْأُخْرَى، وَالْغَدَ إِلَى الْعَصْرِ، فَإِنْ بَقِيَ
شَيْءٌ سَقَاهُ الْخَادِمَ ، أَو أَمَرَ بِهِ فَصُبَّ) . ثم روى مسلم أحاديث أخرى
بمعناه .
والنبيذ هو أن يجعل التمر أو الزبيب في الماء حتى يحلو الماء .
قال النووي في "شرح صحيح مسلم" :
فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث دَلَالَة عَلَى جَوَاز الِانْتِبَاذ .
وَجَوَاز شُرْب النَّبِيذ مَا دَامَ حُلْوًا لَمْ يَتَغَيَّر ، وَلَمْ يَغْلِ [أي
يتحول إلى خمر] ، وَهَذَا جَائِز بِإِجْمَاعِ الْأُمَّة .
وَأَمَّا سَقْيه الْخَادِم بَعْد الثَّلَاث وَصَبّه ، فَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَن
بَعْد الثَّلَاث تَغَيُّره ، وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَتَنَزَّه عَنْهُ بَعْد الثَّلَاث .
وَقَوْله : ( سَقَاهُ الْخَادِم أَوْ صَبَّهُ ) مَعْنَاهُ تَارَة : يَسْقِيه
الْخَادِم ، وَتَارَة يَصُبّهُ ، وَذَلِكَ الِاخْتِلَاف لِاخْتِلَافِ حَال
النَّبِيذ ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَظْهَر فِيهِ تَغَيُّر وَنَحْوه مِنْ مَبَادِئ
الْإِسْكَار : سَقَاهُ الْخَادِم وَلَا يُرِيقهُ ; لِأَنَّهُ مَال تَحْرُم
إِضَاعَته ، وَيَتْرُك شُرْبه تَنَزُّهًا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ ظَهَرَ فِيهِ شَيْء
مِنْ مَبَادِئ الْإِسْكَار وَالتَّغَيُّر : أَرَاقَهُ ; لِأَنَّهُ إِذَا أَسْكَرَ
صَارَ حَرَامًا وَنَجِسًا ، فَيُرَاق ، وَلَا يَسْقِيه الْخَادِم ; لِأَنَّ
الْمُسْكِر لَا يَجُوز سَقْيه الْخَادِم ، كَمَا لَا يَجُوز شُرْبه ، وَأَمَّا
شُرْبه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل الثَّلَاث فَكَانَ حَيْثُ لَا
تَغَيُّر ، وَلَا مَبَادِئ تَغَيُّر ، وَلَا شَكّ أَصْلًا . وَاللَّهُ أَعْلَم"
انتهى .
وحاصل الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم يترك شرب النبيذ بعد ثلاث ليالٍ تورعاً ، ولكنه كان يطعمه للخادم ، إذا لم يظهر فيه شيء من التغير .
وأما قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ
مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) سورة البقرة / 267 . فليس له ارتباط
بهذه المسألة ؛ لأن مراد الآية هو منع المتصدق من إخراج الأردأ من ماله ، وأما هذه
الأطعمة أو المواد المذكورة في السؤال فقد تكون من المواد الغالية والعالية أيضا .
على أن هذه الآية وردت في الصدقة الواجبة ، أما صدقة التطوع فأمرها أخف ، فيتصدق
الإنسان بما يشاء ، وما يتيسر له ، ولو بشق تمرة .