هل الوراثة البيولوجية تشمل الأخلاق والصلاح والفساد ؟
هل يولد الطفل - سواء كان ذكرا أو أنثى - حاملاً لبعض سلوكيات أبويه ، لا شك أنه يولد على الفطرة ، ولكني أسأل عن احتمالية اكتسابه لبعض الصفات السيئة من أبويه عن طريق الجينات ، وإذا كان هذا محتملاً فما الحكم ؟ وما الأشياء التي لا بد أن يرثها المولود عن أبويه ؟ طبعاً باستثناء الملامح الجسدية ؟
الجواب
الحمد لله.
لم يرد في النصوص الشرعية ، سواء في القرآن الكريم ، أم في السنة النبوية ، ما يدل
على أن الوراثة الجينية تؤثر في أعمال الإنسان وأخلاقه وصلاحه أو فساده ، بل ورد ما
يؤكد خلاف ذلك ، فهذا نبي الله نوح عليه السلام ، مات ابنه في الطوفان مع الكافرين
، ولم يكتسب وراثيا من والده القلب الصالح التقي النقي ، وهذا إبراهيم عليه السلام
كان أبوه كافرا ، ولم يؤثر كفر الوالد وراثيا في ولده القلبَ الجاحدَ المستكبر .
يقول العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله :
" الإيمان والصلاح لا علاقة له بالوراثة والأنساب ، وقد يختلف باختلاف استعداد
الأفراد ، وما يحيط بهم من الأسباب ، وما يكونون عليه من الآراء والأعمال ، ولو كان
بالوراثة لكان جميع ولد آدم كأبيهم ، غاية ما يقع منهم معصية تقع عن النسيان وضعف
العزم ، وتتبعها التوبة واجتباء الرب ، ثم لكان سلائل أبناء نوح المؤمنين الذين
نجوا معه في السفينة كلهم مؤمنين صالحين ، والمشهور أن نسل البشر انحصر فيهم ، وقد
دلت الآية الآتية على أن فيهم الصالحين والطالحين ، وأيد ذلك الواقع " انتهى من "
تفسير المنار " (12/ 72) .
وهذا لا يعني أننا ننفي العامل الوراثي مطلقا في تأثيره على الأخلاق والأعمال ، فقد
وردت في القرآن الكريم إشارات – قد تشير – إلى ( احتمال ) تأثير الوراثة في الصلاح
أو الفساد ، وذلك في قول الله عز وجل : ( إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا
عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) نوح/27، وقول الله سبحانه :
( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى
الْعَالَمِينَ . ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) آل
عمران/33-34، وقول الله جل وعلا : ( يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ
سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) مريم/28.
ولكن دلالة هذه الآيات الكريمات على التأثير المباشر للعامل الوراثي فيها قدر من
البعد والاحتمال ، وإن استدل بها بعض الباحثين المعاصرين ، ذلك أن لقائل أن يقول إن
المقصود فيها بيان عامل " التربية "، و" النشأة " في صلاح الأبناء أو فسادهم ، وليس
الوراثة الجينية ، فالفاجر الكافر غالبا ما يربي ولده على سيرته ، فيصدق عليه أنه (
لا يلد إلا فاجرا كفارا )، وهكذا القياس أيضا في دلالة الآيات الأخريات .
وأيضا فالقرآن الكريم يقرر قواعد العدالة المطلقة في تحميل الخلق مسؤولياتهم
الدينية والأخلاقية، كقوله عز وجل : ( وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا
عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ
مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) الأنعام/164،
فإذا كان العامل الوراثي هو الدافع والموجه للأبناء من جهة الصلاح والفساد ، والكفر
والإيمان ، فإن ذلك يعني أن الولد أخذ بجريرة أبيه ، وأن وزر الأصول ينتقل إلى
الفروع ، وهذا أمر منفي نفيا قاطعا في أصول الدين وقواعد الشرع .
ولعل السبب في جزم بعض الباحثين بتأثير العامل الوراثي في سلوك الإنسان واختياراته
اختلاط مفاهيم الأخلاق ، وأعمال القلوب ، بالطباع النفسية والعقلية ، إذ لا ينكر
تأثير الوراثة في تشابه حدة الطبع أو السهولة والليونة أو النشاط والخمول ، ونحوها
من الطباع المرتبطة بعوامل فسيولوجية وأسباب بدنية ، وهذا ما تتحدث عنه كتب علوم
النفس والوراثة الحديثة ، كما في كتاب " سيكولوجية النمو والارتقاء " عبد الفتاح
دويدار، ص81 .
ولكن هذا الأمر لا ينسحب على الباعث النفسي والروحي الذي يقرر اختيار الصلاح أو
الفساد ، وينتقي الأخلاق الفاضلة أو الأخلاق الرديئة ، فهذا " الباعث "، أو " الهم
" لا بد أن يكون في أساسه حرا ؛ لأنه سر التكليف الذي أناط الحساب ببني البشر ،
وجعلهم مسؤولين محاسبين على أعمالهم في الدنيا والآخرة .
ولهذا قال الإمام الغزالي رحمه الله – عن الطفل -:
" قلبه الطاهر جوهرة نفيسة ، ساذجة ، خالية عن كل نقش وصورة ، وهو قابل لكل ما نقش
، ومائل إلى كل ما يمال به إليه " انتهى من " إحياء علوم الدين " (3/ 72) .
وهو ما يشير إليه أيضا الحديث النبوي المشهور : ( مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا
يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ
وَيُمَجِّسَانِهِ ) رواه البخاري (6599) ، ومسلم (2658) .
وعلى كل حال ، فسؤال السائل في نفسه قضية إشكالية أخلاقية فلسفية من قديم الزمان ،
خاض فيها الفلاسفة الأقدمون والمعاصرون ، وبحثها الدارسون في التخصصات النفسية
والتربوية والإنسانية والطبية .
وما يهمنا هنا تأكيد الثابت في الشريعة الإسلامية : أن الإنسان حر في اختياراته ،
وأنه يولد على الفطرة ، وأن العدالة الإلهية قامت بمحاسبة كل نفس على ما اكتسبت ،
وبحسب الاستعدادات العلمية والعملية التي وهبها الله لها ، وأن احتمال التأثير
الوراثي – إن وجد – فلن يكون على الوجه الذي يناقض هذه الثوابت ، وسيكون بقدر محدود
تخفف من وطأته أسباب الهداية التي هيأها الله عز وجل للإنسان ، وضمن هذا الإطار كله
يمكننا فهم عبارة الراغب الأصفهاني (ت502هـ) حيث يقول : " وذلك أن الإنسان ( قد )
يرث من أبويه آثار ما هما عليه من جميل السيرة والخلق وقبيحهما ، كما يرث
مشابهتَهُما في خلقهما ، ولهذا قال الله تعالى : ( وكان أبوهما صالحا ) . وعلى نحوه
روي أنه قال في التوراة : إِني إذا رضيتُ باركتُ ، وإِن بركتي لتبلغ البطن السابع ،
وإذا سَخِطْتُ لعنتُ ، وإِن لعنتي لتبلغ البطن السابع ، تنبيهاً على أن الخير والشر
الذي يكسبه الإنسان ويتخلق به يبقى أثره موروثاً إلى البطن السابع " .
انتهى من " تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين " (ص: 55) ؟
فتأمل استعماله كلمة ( قد ) التي جعلناها بين قوسين كي تتنبه إلى أن الأمر لا يتعدى
دائرة الاحتمال والتشكيك والتقليل .
والله أعلم .