هل يعيد الدعاء إذا انشغل ذهنه ولم يستحضر ما قاله وقت الدعاء؟
لا يستجيب الله تعالى لمن يدعوه وهو غائب الذهن ، فهل يجب على من دعا الله وهو غير مستحضر لما دعاه أن يعيد الدعاء مستحضراً في قلبه ما يريد أن يدعو الله به ؟
الجواب
الحمد لله.
من آداب الدعاء ، وأسباب الإجابة : أن يقبل العبد على ربه في دعائه ، ويخلص له
النية ، ويصدق في طلبه من الله ، وأقل ما يكون من صدق ذلك الطلب : أن يكون واعيا
لدعائه ، عالما بمعناه ، قاصدا لطلبه من رب العالمين .
قال ابن رجب رحمه الله : " وَمِنْ أَعْظَمِ شَرَائِطِهِ: حُضُورُ الْقَلْبِ،
وَرَجَاءُ الْإِجَابَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى" انتهى من "جامع العلوم والحكم"
(2/403) .
وورد الوعيد فيمن يدعو ، وقلبه غافل ، معرض عن ربه ، لاه عن الطلب منه : أنه قمن
ألا يستجاب له :
فروى الترمذي (3479) ، والحاكم (1817) وغيرهما ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ادْعُوا اللَّهَ
وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ
دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ ) .
وهذا الحديث مداره على صالح المُرِّي ، أحد الزهاد ، إلا أنه ضعيف في الحديث .
قال البزار في مسنده (17/307) : " وَهَذَا الحديثُ لاَ نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ أَبُو هُرَيْرة رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ بهذا الإِسْنَاد , ولاَ نَعْلَمُ رَوَاهُ عن هشام إلا صالح المري وكان أحد
العباد , فكانت تشغله عبادته عندنا عن حفظ الحديث " انتهى .
ولهذا : ضعفه الترمذي عقب روايته له ، فقال : "ح ديث غريب " .
وقال الذهبي : " فيه صالح المري ، وهو متروك " انتهى .
وحسنه بعض أهل العلم لشواهده . ينظر: "السلسلة الصحيحة" (594) ، "مختصر تلخيص
الذهبي" لابن الملقن ، حاشية المحققين (1/371) .
وأما أن العبد مطالب بإجابة الدعاء ، إذا دعاه وهو غافل : فنعم ؛ بل هذا من آداب
الدعاء مطلقا : أن يلح العبد على ربه في دعائه ، ويكرره إليه ، ويتضرع بين يديه ،
ويديم المسألة ، لا ينقطع عنها ، حتى يرى من ربه القبول .
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : " يُقَالُ : أَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْإِلْحَاحُ عَلَى
اللَّهِ ، وَالتَّضَرُّعُ إِلَيْهِ" .
نقله ابن عبد البر في "التمهيد" (5/343) .
ولأجل طلب حضور القلب في الدعاء ، وكون ذلك من شرائطه ، كان أرجى أوقات الدعاء
وأفضلها ، أعظمها سكونا ، وجمعا لقلب العبد على ربه :
روى الترمذي (3499) وحسنه ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : " قِيلَ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ ؟ قَالَ
: ( جَوْفَ اللَّيْلِ الْآخِرِ ، وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ ) ، وحسنه
الألباني في " مشكاة المصابيح " (1231) .
وفي صحيح البخاري (5962) ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( يَتَنَزَّلُ
رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ
يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ
مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ) .
قال ابن بطال رحمه الله في شرحه (10/89-90) : " هذا وقت شريف مرغب فيه ، خصّه الله
تعالى بالتنزل فيه ، وتفضّل على عباده بإجابة من دعا فيه ، وإعطاء من سأله ، إذ هو
وقت خلوة ، وغفلة واستغراق فى النوم ، واستلذاذ به ، ومفارقة الدعة واللذة صعب على
العباد ، لا سيما لأهل الرفاهية في زمن البرد ، ولأهل التعب والنصب في زمن قصر
الليل .
فمن آثر القيام لمناجاة ربه والتضرع إليه في غفران ذنوبه ، وفكاك رقبته من النار ،
وسأله التوبة في هذا الوقت الشاق ، على خلوة نفسه بلذتها ، ومفارقة دعتها وسكنها
فذلك دليل على خلوص نيته ، وصحة رغبته فيما عند ربه ، فضمنت له الإجابة ، التي هي
مقرونة بالإخلاص ، وصدق النية في الدعاء، إذ لا يقبل الله دعاءً من قلب غافل لاهٍ.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى هذا المعنى بقوله: (والصلاة بالليل والناس
نيام) .
فلذلك نبّه الله عباده على الدعاء في هذا الوقت الذى تخلو فيه النفس من خواطر
الدنيا وعُلقها ، ليستشعر العبد الجدّ والإخلاص لربه ، فتقع الإجابة منه تعالى ،
رفقًا من الله بخلقه ، ورحمةً لهم ؛ فله الحمد دائمًا ، والشكر كثيرًا ، على ما
ألهم إليه عباده من مصالحهم ، ودعاهم إليه من منافعهم لا إله إلا هو الكريم الوهاب
" انتهى.
والله أعلم .