الحمد لله.
الحلف بالله كاذبا أمر محرم ، وهو اليمين الغموس عند بعض العلماء ، وهو كبيرة من
كبائر الذنوب ؛ لما روى البخاري (6675) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله
عنهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الْكَبَائِرُ :
الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ،
وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ( .
فالواجب على من وقع في هذا المنكر أن يتوب إلى الله تعالى ويسأله العفو والمغفرة ،
ويعزم على عدم الحلف كاذباً مرة أخرى .
وهذه اليمين الكاذبة لا كفارة فيها عند كثير من أهل العلم ؛ لأنها أعظم من أن تكفّر
.قال الإمام مالك رحمه الله في اليمين الغموس : " الْغَمُوسُ : الْحَلِفُ عَلَى
تَعَمُّدِ الْكَذِبِ . . . وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفِّرَهُ الْكَفَّارَةُ "
انتهى باختصار من "التاج والإكليل" (4/406) ، ونحوه في "المدونة" (1/577) .
وقال ابن قدامة رحمه الله : "(ومن حلف على شيء ، وهو يعلم أنه كاذب ، فلا كفارة
عليه ; لأن الذي أتى به أعظم من أن تكون فيه الكفارة) هذا ظاهر المذهب ، نقله
الجماعة عن أحمد ، وهو قول أكثر أهل العلم ، منهم ابن مسعود ، وسعيد بن المسيب ،
والحسن ، ومالك ، والأوزاعي ، والثوري ، والليث ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وأصحاب
الحديث ، وأصحاب الرأي من أهل الكوفة ، وهذه اليمين تسمى يمين الغموس ; لأنها تغمس
صاحبها في الإثم . قال ابن مسعود : كنا نعدّ من اليمين التي لا كفارة لها ، اليمين
الغموس . وعن سعيد بن المسيب ، قال: هي من الكبائر ، وهي أعظم من أن تكفر" انتهى من
"المغني" (9/392) .
وما دام صاحبك قد حلف لك أنه لا يتذكر ذلك : فعليك أن تعذره ، وتصدقه ؛ فلربما نسي
ما فعل ، ولربما كان لا يقصد هذا المعنى السيء الذي ذكرت، فما دام أنه قد حلف لك
أنه لا يتذكر فعليك أن تصدقه ، وأن تكل قصده وسريرته إلى علام الغيوب الذي يعلم
السر وأخفى، فقد أخرج ابن ماجه في سننه (2101) عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: " سَمِعَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَقَالَ:
(لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ فَلْيَصْدُقْ، وَمَنْ حُلِفَ
لَهُ بِاللَّهِ فَلْيَرْضَ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِاللَّهِ ، فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ
) وصححه الألباني .
ثم إن كان لا يتذكر ، فإنه
يكون بارا في يمينه حتى وإن كان قد فعل هذا الفعل ونسيه .
أما إن كان يتذكر وحلف أنه لا يذكر فإنه يكون يمينا غموسا كما سبق .
والنصيحة لك أيها السائل أن
تترفع عن هذه السفاسف ، وتدع الحدة وسوء الظن بإخوانك ، وأن تقدر له أنه لم يحب لك
أن تحلف على أمر ، ربما تكون أنت المخطئ أو الواهم فيه ، مع أن حلفك لا يضره في شيء
.
فجاهد نفسك ـ يا عبد الله ـ أن تتحلى بالحلم والعفو والصفح عمن أساء إليك ، فقد مدح
الله سبحانه من يفعل ذلك بقوله : (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ .
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) آل عمران/ 133،
134، وقوله تعالى : (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ
وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا
إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) فصلت/ 34، 35 .
وتذكر أن الشيطان لا يفتر أن يحرش بين المسلمين وينزغ بينهم ، فقد قال الله تعالى :
(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ
بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) الإسراء/ 53
، وأخرج مسلم (2812) عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ
الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ ).
والله أعلم.