الحمد لله.
ومن هنا نؤكد لك أن تزكية النفس بالأخلاق الفاضلة ، والآداب السامية ، والأعمال الصالحة النافعة : جهادٌ طويل تتعدد وسائله ، ومقامٌ جليل تفنى في سبيله الأعمار ، يتعلم المسلم في مراحل عمره – إن أراد أن يرتقي بما يزكي نفسه - كيف يكون كريما في جميع الأحوال ، وكيف يتحصل على المروءة في مختلف المواقف ، وكيف يحقق في ذاته مقامات التواضع ، والإخبات ، والمراقبة ، والزهد ، والورع ، والرجاء ، والثقة بالله ، والتوكل ، والفتوة ، والإيثار ، والحياء ، والصدق ، واليقين ، والإحسان ، والحكمة ، والأنس بالله ، وغيرها ، كل مقام منها يحتاج علما وعملا ومصابرة ومراقبة خاصة ، وتحصيل ذلك كله لا يقتصر على معلم أو مرشد، بل الحكمة ضالة المؤمن ، يتلقاها في مشاهد الكون المفتوحة ، وآلاء الله في خلقه ، وفي سير الصالحين ، وصحبة المخلصين ، والتفقه في الدين ، وقبل ذلك كله في التدبر والتأمل في كتاب الله ، والعمل بما جاء فيه .
وإذا كان مقصود هؤلاء المعترضين هو بيان أهمية المعلم في التوجيه والتعليم
والتربية ، فهذا حق لا يتردد فيه أحد ، وما زالت حواضر الإسلام وجامعات العلم
ومدارسه : تنتهج طريق التعليم والإرشاد سبيلا لتخريج الأجيال المسلمة الفقيهة
الواعية .
ولكن الإشكال يبدأ حين يُنقل المعلم من مقامه الرفيع هذا ، إلى مقام كهنوتي ، تفرض
فيه طقوس خاصة ، من البيعة الملزمة بالطاعة إلزاما شرعيا ، يعد مخالفها آثما أو
عاصيا ، فيكسى المرشد كساء قداسة خاصة ، يغدو معها المريد بين يديه كالميت بين يدي
مغسله ، يتمسك به " تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد ، بحيث يفوض أمره إليه
بالكلية ، ولا يخالفه في ورده ولا صدره ، ولا يُبقي في متابعته شيئا ولا يذر ، حتى
إنه ليلقن : أن نفعه في خطأ شيخه ، لو أخطأ : أكثر من نفعه في صواب نفسه ؛ لو أصاب
!! " [ كما جاء في "إحياء علوم الدين" ] .
وبعضهم يصرح بأن مبايعة الشيخ المربي ـ وبعضهم ينقلها إلى : القائد الحركي ،
والأمير الحزبي ـ : تنقل أوامره إلى دائرة التقديس الإلهي ، فتكون واجبة الطاعة ،
محرمة العصيان ، مؤكدة كأوامر الشرع الحنيف .
وهذا باطل بلا تردد ؛ لما فيه من إحداث في الدين بما لم يشرعه الله ولا رسوله ،
فليس لأحد صفة الإلزام الشرعي إلا بدليل شرعي ، ولم يرد الدليل بمنح أوامر هؤلاء
قوة التكليف الشرعي .
وكل ما ورد من نصوص شرعية عن البيعة : إنما يراد بها بيعة إمام المسلمين الذي يحكم
البلاد والعباد ، بالعدل والرشد .
ولهذا عرف ابن خلدون رحمه الله البيعة بقوله : " هي العهد على الطّاعة ، كأنّ
المبايع يعاهد أميره على أنّه يسلّم له النّظر في أمر نفسه وأمور المسلمين ، لا
ينازعه في شيء من ذلك ، ويطيعه فيما يكلّفه به من الأمر ، على المنشّط والمكره " .
انتهى من " تاريخ ابن خلدون " (1/261) .
فليس هناك دليل من الشرع على أن الشيخ أو المربي يأخذ البيعة على السمع والطاعة من أتباعه ، ولم يكن هذا من فعل الصحابة رضي الله عنهم .
سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء السؤال الآتي :
" كنت دون البلوغ في السن ، وذهبت إلى أحد مشايخ الطرق الصوفية ، وقلت له : أريد
أدخل طريقة الشيخ عبد القادر الجيلي . فقال : خذ العهد . وأخذت العهد على يديه ،
يدي في يده ، وقال لي : ردد معي العهد . بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم صل على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، إنني نويت الدخول في طريقة الشيخ عبد القادر
الجيلي ، وقد بعت نفسي لهذا شيخي ويذكر اسمه .
أولا : هل هذا العهد صحيح ، وأنني قد تبت لله .
ثانيا : هل هو ملاذ حتى الموت ؟
أفيدوني جزاكم الله خيرا.
فأجابت :
ما ذكرته من العهد غير صحيح ، وقد أحسنت في توبتك إلى الله ، وعليك أن تتمسك بكتاب
الله تعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عقيدة وقولا ، دون أخذ عهد على طريقة
شيخ ما من مشايخ الطرق ، وبع نفسك على الله ، بدلا من بيعها على الشيخ ، التزاما
بشريعته سبحانه ، ولا يلزمك الاستمرار على هذا العهد الذي أخذته من الشيخ ، لأنه
بدعة تجتنب ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد
) خرجه الإمام مسلم في (صحيحه) ، وهذه البيعة ليس عليها أمر النبي صلى الله عليه
وسلم بنص هذا الحديث ، فتكون مردودة " انتهى .
الشيخ عبد العزيز بن باز – الشيخ عبد الرزاق عفيفي – الشيخ عبد الله بن غديان
انتهى من " فتاوى اللجنة الدائمة " ( المجموعة الثانية 2/ 80) .
هذا ، وللشيخ في بعض المخيال الصوفي تصورات خاصة ، توارثها بعض أتباع الطرق حتى
عمت واستقرت بينهم ، سببها بدعة " البيعة الصوفية الملزمة " التي دخلت عليهم ،
وحكايتها تكفي لردها وتحقق شناعتها .
فقد نقل أحمد بن المبارك السلجماسي عن محيي الدين ابن عربي قوله :
" من شروط المريد : أن يعتقد في شيخه أنه على شريعة من ربه ونبيه منه ، ولا يزن
أحواله بمسيرته ، فقد تصدر من الشيخ صورة مذمومة في الظاهر وهي محمودة في الباطن ،
والحقيقة أنه يجب التسليم ، وكم من رجل أخذ كأس خمر بيده ورفعه إلى فيه ، وقلبه
الله في فيه عسلًا ، والناظر يراه شرب خمرًا ، وهو ما شرب إلا عسلًا ، ومثل هذا
كثير ، وقد رأينا من يجسد روحانيته على صورة ، ويقيمها في فعل من الأفعال ، ويراها
الحاضرون على ذلك الفعل فيه ، ولو رأيناه فعلا يفعل كذا ، وهو عن ذلك الفعل بمعزل
".
يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق – معلقا على هذا النقل -:
" وهذا الذي نقله أحمد بن مبارك السلجماسي عن ابن عربي مقررًا ومتبعًا له ، هو ما
عليه عامة الصوفية بعد ابن عربي ، الذين يعتقدون أن للشيخ الصوفي (الكامل) أن يفعل
ما يشاء من المعاصي ولا حرج عليه ، ولا يجوز أن يظن المريد خلاف الخير ؛ لأن الخمر
التي يراها المريد خمرًا تنقلب عينها في الشيخ فتكون له لبنًا أو عسلًا . أو أن
الشيخ يشكل نفسه على النحو الذي يظهر منه الفسق والخروج على الشريعة ليؤدب المريدين
، ويعلمهم أن يثقوا بشيخهم ، ولو رأوه يفعل منكرًا .
أقول : وقد حدثني أستاذي وشيخي الشيخ محمد عبد الوهاب البنا حفظه الله ، أنه شاهد
أباه وكان من هيئة كبار العلماء في الأزهر يشتري قارورة الخمر بنفسه ، ويعطيها لشيخ
له في الطريق ، ولما كلمه الشيخ محمد عبد الوهاب البنا في ذلك . قال له : يا بني
إنها تنقلب في بطن الشيخ فتكون لبنًا !!
فانظر كيف يفعل مثل هذا الكلام في المريدين ، فيجعلهم يعتقدون في شيوخهم العصمة ،
حتى لو رأوهم على المعصية جهارًا نهارًا . وهذا غاية في إلغاء العقول والأفهام ،
وذلك حتى تتلقى هذه العقول ما هو شر من ذلك وأقبح من الكلام في العقائد وأصول الدين
، كلامًا وكفرًا وزندقة لم يقلها اليهود ولا النصارى ولا المجوس " انتهى من " الفكر
الصوفي في ضوء الكتاب والسنة " (ص322) وللتوسع ينظر المبحث الذي كتبه الشيخ عبد
الرحمن عبد الخالق بكماله في هذا الكتاب (313-347) .