الحمد لله.
ثانيا :
هذه الأحاديث لا تثبت العصمة لأقوال ابن عباس رضي الله عنه :
1- لأن ليس فيها الدعوة بالعصمة من الخطأ ، وإنما فيها الدعوة بالعلم فقط .
2- عدم إصابة العالم للحق أحيانا لا يخرجه من زمرة العلماء ولا ينزع عنه صفة العلم
.
3- - لا يلزم من إثبات الفقه للعالم ، الصحابي أو غيره ، أن يصيب في جميع أقواله ،
فالفقهاء ما زالوا يصيبون ويخطئون ، ولكن لا شك أن لابن عباس مزية بهذا الدعاء ،
فهو أقرب إلى الصواب من غيره ، وإن كان في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، من هو
أولى بالفقه والصواب منه ، كأبي بكر ، وعمر ، بل وسائر الخلفاء الراشدين ، رضوان
الله عليهم جميعا .
4- وقد ورد في شأن أبي بكر من الفضل ، وفي شأن عمر رضي الله عنه ، وعلمه وأن الحق
ينطق على لسانه ، وفي شأن علي ، وابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ... إلخ ، ما هو أعظم
مما ورد في شأن ابن عباس ولم يلزم من ذلك كله أن يكون الوحد منهم معصوما ، أو أن
اتباعه فرض لازم على الأمة في كل حال . ولم يحتج لا عمر ولا ابن عباس ، ولا غيرهما
من فقهاء الصحابة وفضلائهم ، على أحد من الصحابة ، بل ولا التابعين : بما ورد في
فضلهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، مما يدل على أنهم لم يفهموا من هذا أن قولهم
صار صوابا في جميع الأحوال .
5- بل أدل من ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر باتباع سنة الخلفاء
الراشدين ، ولم يمنع ذلك أن يخالفهم بعض الصحابة في مسائل ؛ قال الزركشي رحمه الله
، في بحث مسألة "قول الخلفاء الأربعة" هل هو حجة أم لا : " .. لَنَا أَنَّ ابْنَ
عَبَّاسٍ خَالَفَ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ فِي خَمْسِ مَسَائِلَ فِي الْفَرَائِضِ
انْفَرَدَ بِهَا، وَابْنُ مَسْعُودٍ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ ، وَلَمْ يَحْتَجَّ
عَلَيْهِمْ أَحَدٌ بِإِجْمَاعِ الْأَرْبَعَةِ." .
انتهى من "البحر المحيط في أصول الفقه" (6/452) .
ثالثا :
ربما يُشكِل على هذا القائل رواية أخرى للحديث المذكور في الدعاء لابن عباس ، وهي :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : " ضَمَّنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى صَدْرِهِ ، وَقَالَ: ( اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الحِكْمَةَ ) " رواه
البخاري ( 3756 ) .
فـ " الحكمة " هنا فسرها بعض أهل العلم بأنها الإصابة في القول ، لكن هذا مجرد قول
من أقوال متعددة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" واختلف الشراح في المراد بالحكمة هنا فقيل : القرآن كما تقدم ، وقيل العمل به ،
وقيل السنة ، وقيل الإصابة في القول ، وقيل الخشية ، وقيل الفهم عن الله ، وقيل
العقل ، وقيل ما يشهد العقل بصحته ، وقيل نور يفرق به بين الإلهام والوسواس ، وقيل
سرعة الجواب مع الإصابة ... والاقرب أن المراد بها في حديث بن عباس الفهم في القرآن
" .
انتهى من " فتح الباري " ( 1 / 170 ) .
فرجح ابن حجر أن المراد بها القرآن فهي مفسرة بالرواية السابقة : ( اللَّهُمَّ
عَلِّمْهُ الكِتَابَ ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" وقال : ( اللهم علمه الحكمة )، وفي لفظ : ( علمه الكتاب ) وهو يؤيد من فسر الحكمة
هنا بالقرآن " انتهى من " فتح الباري " ( 7 / 100 ) .
وقال ابن الملقن رحمه الله تعالى :
" المراد بالكتاب هنا : القرآن وكذا كل موضع ذكر الله تعالى فيه الكتاب ، والمراد
بالحكمة أيضًا : القرآن " انتهى من " التوضيح لشرح الجامع الصحيح " ( 3 / 383 ) .
رابعا :
ثمّ من المتفق عليه بين أهل السنة أن لا عصمة لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" والقاعدة الكلية في هذا أن لا نعتقد أن أحدا معصوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم
، بل الخلفاء وغير الخلفاء يجوز عليهم الخطأ " انتهى من " منهاج السنة " ( 6 / 196
) .
وقال رحمه الله تعالى :
" اتفق أهل العلم - أهل الكتاب والسنة - على أن كل شخص سوى الرسول فإنه يؤخذ من
قوله ويترك ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر ،
وطاعته في كل ما أمر ، فإنه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى "
.
انتهى من " منهاج السنة " ( 6 / 190 – 191 ) .
ولهذا يعامل أهل العلم أقوال ابن عباس كأقوال غيره من الصحابة رضوان الله عليهم
أجمعين.
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (229770 ).
والله أعلم .