هل يجوز عصيان الأب أو الجدة ، ممن يعانون من مرض عقلي، في بعض الأمور؟ وخصوصا إذا كانت تلبية طلباتهم ستزيد من حالتهم سوءا ؟
الحمد لله.
من أصول الشرع المقررة ، المتفق عليها : أنه لا يحل لمسلم أن يدخل الضرر على مسلم ، سواء كان على نفسه ، فإن يده ليست مطلقة التصرف في نفسه من غير إذن الشارع ، ولا على غيره ، فلا يحل له أن يضر بمسلم .
ومن الأدلة المشهورة الظاهرة في ذلك : حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ) .
قال النووي رحمه الله : "حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا مُسْنَدًا، وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّإِ " عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، فَأَسْقَطَ أَبَا سَعِيدٍ، وَلَهُ طُرُقٌ يَقْوَى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ" انتهى .
قال ابن رجب رحمه الله : " وهو كما قال " . انتهى.
ينظر : "جامع العلوم والحكم" (2/207-210) .
قال الإمام الشاطبي رحمه الله :
" الضَّرَرَ وَالضِّرَارَ مَبْثُوثٌ مَنْعُهُ فِي الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا، فِي وَقَائِعَ جُزْئِيَّاتٍ ، وَقَوَاعِدَ كُلِّيَّاتٍ ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [الْبَقَرَةِ/231 ، وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ [الطَّلَاقِ/6، لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا الآية الْبَقَرَة/ 233 .
وَمِنْهُ : النَّهْيُ عَنِ التَّعَدِّي عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ، وَعَنِ الْغَصْبِ وَالظُّلْمِ، وَكُلِّ مَا هو في المعنى إضرار أو ضرار، ويدخل تحته الجناية على النَّفْسِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ النَّسْلِ أَوِ الْمَالِ؛ فَهُوَ مَعْنًى فِي غَايَةِ الْعُمُومِ فِي الشَّرِيعَةِ لَا مِرَاءَ فِيهِ وَلَا شَكَّ " انتهى من "الموافقات" للشاطبي (3/185) . وينظر : "شرح القواعد الفقهية" للندوي (287-293) .
وبناء على ذلك النظر المقرر في الشريعة ، يقال : إن طاعة الوالدين ، أو الجدين ، إنما تشرع حيث لا تجلب هذه الطاعة ضررا عليهما ، أو على غيرهما .
وحاصل ذلك أن طاعتهما في الأمور المباحة : واجبة ، حتى ولو كان في طاعتهما في ذلك نوع مشقة على الولد ؛ بشرط ألا يدخل بذلك ضرر عليهما ، ولا على ولدهما ؛ فإن ترتب على ذلك ضرر : سقطت الوجوب .
قال ابن مفلح رحمه الله :
" وَيَلْزَمُهُ طَاعَةُ وَالِدَيْهِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ, وَيَحْرُمُ فِيهَا ...
وَقَالَ شَيْخُنَا: هَذَا فِيمَا فِيهِ نَفْعٌ لَهُمَا وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ, فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَضُرَّهُ وَجَبَ وَإِلَّا فَلَا, وَإِنَّمَا لَمْ يُقَيِّدْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِسُقُوطِ فَرَائِضِ اللَّهِ بِالضَّرَرِ" انتهى. من "الفروع" (5/229) .
لكن ينبغي الانتباه هنا إلى أمور :
الأول : أن يكون الضرر الداخل على الوالدين بذلك : ضررا محققا ، أو غلب الظن بوقوعه عند فعل ذلك ؛ فإن كان ضررا متوهما ، لم يسقط وجوب طاعتهما بذلك .
الثاني : ألا يترتب على ترك طاعتهما ، ضرر أكبر من ضرر طاعتهما في ذلك ، وهذه قاعدة الشريعة العامة في الموازنة بين المصالح والمفاسد .
قال ابن نجيم رحمه الله :" إذَا تَعَارَضَ مَفْسَدَتَانِ رُوعِيَ أَعْظَمُهُمَا ضَرَرًا بِارْتِكَابِ أَخَفِّهِمَا . قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ: ثُمَّ الْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ مَنْ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ، وَهُمَا مُتَسَاوِيَتَانِ يَأْخُذُ بِأَيَّتِهِمَا شَاءَ، وَإِنْ اخْتَلَفَا يَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْحَرَامِ لَا تَجُوزُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ." انتهى، من "الأشباه والنظائر" (98) .
الثالث : أن يكون الضرر الداخل عليهما ، أو على غيرهما بذلك : ضررا ظاهرا ، ثابتا ؛ فأما الضرر الطارئ الذي لا يلبث أن يزول ، فلا يظهر أنه يسقط طاعتهما ، لا سيما إن كان الوالدان يستوحشان بذلك ، وتتأذى نفوسهما بترك تلبية رغبتهما .
ومن ذلك : مريض السكري ، مثلا ، إذا كان كبير السن ، فإن نفسه تتوق إلى الممنوع من الطعام والشراب كثيرا ، وليس من الحكمة التشدد في منعه من كل ما يمنعه منه الطبيب ، بل ينبغي التسهيل معه في بعض الأحايين في أشياء من ذلك ، فإن تأذي نفسه بالحرمان ، كثيرا ما يفوق ضرر أكلة وتمضي ، أو شراب حلو ، في المرة ، بعد المرة .
قال ابن عبد البر رحمه الله : " وَيَدْخُلُ الضَّرَرُ فِي الْأَمْوَالِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ، لَهَا أَحْكَامٌ مُخْتَلِفَةٌ .. ، وَهَذِهِ أَصُولٌ قَدْ بَانَتْ عِلَلُهَا ، فَقِسْ عَلَيْهَا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا : تُصِبْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَهَذَا كُلُّهُ بَابٌ وَاحِدٌ مُتَقَارِبُ الْمَعَانِي ، مُتَدَاخِلٌ ؛ فَاضْبُطْ أَصْلَهُ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ وَجْهٌ آخَرُ مِنَ الضَّرَرِ مَنَعَ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ كَدُخَانِ الْفُرْنِ وَالْحَمَّامِ وَغُبَارِ الْأَنْدَرِ وَالْأَنْتَانِ وَالدُّودِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الزِّبْلِ الْمَبْسُوطِ فِي الرِّحَابِ ، وَمَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ مِنْهُ مَا بَانَ ضَرَرُهُ ، وَبَقِيَ أَثَرُهُ ، وَخَشِيَ تَمَادِيَهُ .
وَأَمَّا مَا كَانَ سَاعَةً خَفِيفَةً ، مِثْلَ نَفْضِ التُّرَابِ وَالْحُصْرِ عِنْدَ الْأَبْوَابِ : فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا غِنَى بِالنَّاسِ عَنْهُ ، وَلَيْسَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْءٌ يَبْقَى ، وَالضَّرَرُ فِي مَنْعِ مِثْلِ هَذَا أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ سَاعَةً خَفِيفَةً .." انتهى ، من "التمهيد شرح الموطأ" (20/160-161) .
ولا شك أن الواجب في ذلك كله ، لمن كان قائما بأمر أبويه ، سواء كانا صحيحين أو عليلين : أن يجتهد في أن يترضاهما في كبرهما ، ويتلطف في معاملتهما ، وإجابة ما يمكنه من طلبهما ، أو الاعتذار عما يعجز عنه ، أو لا ينبغي طاعتهما فيه ، ويداريهما في الكلام ، ويعلم أنهما في حال الضعف التي ردهما الله إليها ، يحتاجان إلى مثل ما يحتاج إليه الطفل الصغير من الحلم والصبر ، والتلطف ، وسعة الصدر .
نسأل الله أن يعينك على بر والديك ، وأن يجزيك عنهما خير الجزاء .
والله أعلم .