الحمد لله.
ثانيا :
المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها العلماء – وهي المسائل التي لم يرد بحكمها نص
قاطع ، أو قريب منه ، في القرآن الكريم ، أو السنة النبوية ، وإنما هي استنباطات
للعلماء - : من قلد فيها عالما من العلماء ، فلا حرج عليه في ذلك ، فإن تبين له بعد
ذلك أن هناك قولا آخر أرجح مما عمل به ، فإنه ينتقل إلى العمل بما ظهر له أنه أرجح
، وما فعله على القول الأول فهو صحيح مجزئ ، لا يؤمر بإعادته .
وهذا أصل عام ، في نظائر ذلك من المسائل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ لَا تُنْكَرُ بِالْيَدِ ،
وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ فِيهَا؛ وَلَكِنْ
يَتَكَلَّمُ فِيهَا بِالْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ ، فَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّةُ
أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ تَبِعَهُ ، وَمَنْ قَلَّدَ أَهْلَ الْقَوْلِ الْآخَرِ : فَلَا
إنْكَارَ عَلَيْه" انتهى ِ من "مجموع الفتاوى "(30/80) .
وقد ذكر شيخ الإسلام مسألة اختلف فيها الأئمة : هل يثبت بها التحريم في النكاح
أم لا ؟
فكان مما قال :
"وَقَدْ ذَهَبَ إلَى كُلِّ قَوْلٍ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: كَالشَّافِعِيِّ
وَمَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: يُبِيحُونَ ذَلِكَ؛ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَمَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: يُحَرِّمُونَ ذَلِكَ.
فَهَذِهِ إذَا قَلَّدَ الْإِنْسَانُ فِيهَا أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ جَازَ ذَلِكَ"
انتهى من " مجموع الفتاوى " (32/140) .
وسئل رحمه الله عن حيلة من الحيل أفتى بها بعض العلماء حتى لا يقع طلاق على
الزوج ، تسمى بـ "مسألة ابن سريج" فقال :
"هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُحْدَثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ؛ وَلَمْ يُفْتِ بِهَا أَحَدٌ
مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ؛ وَإِنَّمَا أَفْتَى بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ،
وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جَمَاعَةُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ قَلَّدَ
فِيهَا شَخْصًا ، ثُمَّ تَابَ : فَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ، وَلَا
يُفَارِقُ امْرَأَتَهُ إذَا كَانَ مُتَأَوِّلًا " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " (33/244) .
وسئل رحمه الله عن بعض المعاملات التي يتخذها الناس حيلة على الربا ، وقد أفتى
بجوازها بعض العلماء ، فذكر الأدلة على تحريمها ، ثم قال :
"وَمَا اكْتَسَبَهُ الرَّجُلُ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالْمُعَامَلَاتِ الَّتِي
اخْتَلَفَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ ، كَهَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا
وَغَيْرِهَا ، وَكَانَ مُتَأَوِّلًا فِي ذَلِكَ ، وَمُعْتَقِدًا جَوَازَهُ
لِاجْتِهَادِ ، أَوْ تَقْلِيدٍ ، أَوْ تَشَبُّهٍ بِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، أَوْ
لِأَنَّهُ أَفْتَاهُ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ = فَهَذِهِ الْأَمْوَالُ
الَّتِي كَسَبُوهَا وَقَبَضُوهَا : لَيْسَ عَلَيْهِمْ إخْرَاجُهَا ، وَإِنْ
تَبَيَّنَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُخْطِئِينَ فِي ذَلِكَ ،
وَأَنَّ الَّذِي أَفْتَاهُمْ أَخْطَأَ. فَإِنَّهُمْ قَبَضُوهَا بِتَأْوِيلِ ...
لَكِنْ عَلَيْهِمْ إذَا سَمِعُوا الْعِلْمَ : أَنْ يَتُوبُوا مِنْ هَذِهِ
الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ .." انتهى من " مجموع الفتاوى " (29/443- 445) .
فأمر من علم تحريمها بالالتزام بذلك ، ولا يجوز له في هذه الحالة تقليد من يفتي
بجوازها ، أما لأموال التي اكتسبها بهذه المعاملات التي تأول فيها : فإنه لا يلزمه
أن يتصدق بشيء فيها ، بل ملكه لها صحيح .
وقد سئل الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله عمن يقوم بإخراج زكاة الفطر نقودا .
فأجاب : "إخراج زكاة الفطر نقودا غلط ، ولا يجزئ صاحبَه ، لقول النبي صلى الله عليه
وعلى آله وسلم : (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) أي مردود عليه .
وثبت في البخاري وغيره عن ابن عمر : (فرض رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم
زكاة الفطر صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير) ، فرضها صاعا من تمر أو صاعا من شعير ،
والفرض يعني الواجب القطعي .
لكن بعض أهل العلم رحمهم الله جوز أن يخرجها من النقود ، فمن قلد هؤلاء وأخرج : فهي
مجزئة ، إذا كان لا يعلم الحق في هذه المسألة .
وأما من علم أنه لابد أن تكون من طعام ، ولكنه أخرج النقود لأنها أسهل له وأيسر :
فإنها لا تجزئه" انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (10/2) الشاملة .