الحمد لله.
ولحلّ هذا الإشكال : علينا أن نعلم أن أهل العلم اختلفوا في قتل المنافق إذا
أعلن توبته بعد ظهور نفاقه .
القول الأول :
أن المنافق إذا أعلن التوبة بعد ظهور نفاقه فإنّ توبته تقبل على ظاهرها ولا يقتل .
قال ابن المنذر رحمه الله تعالى :
" واختلفوا في الزنديق [يعني : المنافق] يُظهر عليه ، هل يستتاب أم يقتل ، ولا يقبل
منه الرجوع ؟
فقالت طائفة : تقبل توبته إن تاب ، ويقتل إن لم يتب ، يُروى هذا القول عن علي بن
أبي طالب ، وبه قال عبيد الله بن الحسن ، والشافعي .
قال أبو بكر – أي ابن المنذر - : كما قال الشافعي أقول . وقد احتج بقول الله تعالى
في المنافقين : ( اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
) قال : وهذا يدل على أن إظهار الإيمان جُنّة – أي وقاية - من القتل " انتهى من "
الإشراف على مذاهب العلماء " (8 / 64) .
فمن ذهب من أهل العلم إلى هذا القول ، قالوا : بأن هؤلاء المنافقين كانوا يسارعون إلى إظهار التوبة بعد كل افتضاح لأمرهم ، ويقسمون بأغلظ الأيمان ليرضى عنهم النبي صلى الله عليهم وسلم ومن معه ، كما قصّ الله تعالى لنا حالهم في الآيات التي سبق ذكرها .
القول الثاني : أن المنافق إذا ظهر نفاقه لا يستتاب ، بل يقتل .
وهؤلاء لمّا سئلوا عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين وعدم قتلهم أو
عقابهم على كفرهم الذي ظهر منهم ، أجابوا بأحد جوابين :
الجواب الأول :
أنّ المنافقين وإِنْ عُلِم حالهم بالوحي ، أو ظهرت بعض أمارات نفاقهم : إلّا أنه لم
تظهر للناس البينة الشرعية التي بها تقام الحدود الشرعية ، كالإقرار أو اكتمال نصاب
شهادة الشهود .
فرأوا أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين تدل ـ أيضا ـ على أنّ القاضي
لا يحكم بمجرد علمه ، بل لا بدّ من بينة ظاهرة يحتكم إليها .
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى :
" ظاهر المذهب أن الحاكم لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره ، لا فيما علمه قبل الولاية
ولا بعدها . هذا قول شريح ، والشعبي ، ومالك ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، ومحمد بن الحسن
. وهو أحد قولي الشافعي ...
وقال أبو حنيفة : ما كان من حقوق الله ، لا يحكم فيه بعلمه ؛ لأنّ حقوق الله تعالى
مبنية على المساهلة والمسامحة ...
ولنا ، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي ،
ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه ) . فدل على
أنه إنما يقضي بما يسمع، لا بما يعلم . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في قضية
الحضرمي والكندي: ( شاهداك أو يمينه ، ليس لك منه إلا ذاك ) ...
ولأن تجويز القضاء بعلمه يفضي إلى تهمته ، والحكم بما اشتهى ، ويحيله على علمه " .
انتهى من " المغني " (14 / 31 - 33) .
وانظر " الاستذكار " لابن عبد البر ( 6 / 335 – 336) .
الجواب الثاني :
أن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ترك عقابهم لمصلحة تأليف القلوب ، وإخماد الفتن
ولعدم تنفير الناس عن الإسلام .
عن جَابِر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قال : " ... قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ
ابْنُ سَلُولَ: أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا ، لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ
لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ، فَقَالَ عُمَرُ: أَلاَ نَقْتُلُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الخَبِيثَ ؟ لِعَبْدِ اللَّهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ
أَصْحَابَهُ ) " رواه البخاري (3518) ، ومسلم (2584) .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" والنبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له : ألا تقتلهم ؟ ، لم يقل : ما قامت عليهم
بينة ، بل قال: ( لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ) .
فالجواب الصحيح إذن : أنه كان في ترك قتلهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مصلحة
تتضمن تأليف القلوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجمع كلمة الناس عليه ،
وكان في قتلهم تنفير، والإسلام بعد في غربة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أحرص
شيء على تأليف الناس ، وأترك شيء لما ينفرهم عن الدخول في طاعته " انتهى من في زاد
المعاد ( 3 / 497 ).
ويستفاد من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن كلا الجوابين صحيح ، وأن كل
جواب منهما كان ينطبق على بعض المنافقين ، فقال رحمه الله :
" فإن قيل : فلم لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بنفاق بعضهم وقبل
علانيتهم ؟
قلنا: إنما ذاك لوجهين:
أحدهما: أن عامتهم لم يكن ما يتكلمون به من الكفر مما يثبت عليهم بالبينة ، بل
كانوا يظهرون الإسلام ، ونفاقهم يعرف تارة بالكلمة يسمعها منهم الرجل المؤمن ،
فينقلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيحلفون بالله أنهم ما قالوها ، أو لا
يحلفون .
وتارة بما يظهر من تأخرهم عن الصلاة والجهاد ، واستثقالهم للزكاة ، وظهور الكراهية
منهم لكثير من أحكام الله ، وعامتهم يعرفون في لحن القول...
ثم جميع هؤلاء المنافقين يظهرون الإسلام ، ويحلفون أنهم مسلمون، وقد اتخذوا أيمانهم
جنة .
وإذا كانت هذه حالهم : فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقيم الحدود بعلمه ، ولا
بخبر الواحد، ولا بمجرد الوحي ، ولا بالدلائل والشواهد ، حتى يثبت الموجب للحد ،
ببينة أو إقرار ... فكان ترك قتلهم ، مع كونهم كفارا : لعدم ظهور الكفر منهم بحجة
شرعية ...
الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف أن يتولد من قتلهم من الفساد
أكثر مما في استبقائهم ، وقد بين ذلك حيث قال: ( لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل
أصحابه) ...
وأن يخاف من يريد الدخول في الإسلام أن يُقتل مع إظهاره الإسلام كما قُتل غيرُه .
وقد كان أيضا يغضب لقتل بعضهم قبيلتُه ، وناس آخرون ، ويكون ذلك سببا للفتنة ،
واعتبر ذلك بما جرى في قصة عبد الله بن أبي لما عرّض سعد بن معاذ بقتله ، خاصم له
أناس صالحون وأخذتهم الحمية ، حتى سكَّتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( القصة
رواها البخاري 4141 ، ومسلم 2770 ) . وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لما
استأذنه عمر في قتل ابن أبيّ .
قال أصحابنا : ونحن الآن إذا خفنا مثل ذلك كففنا عن القتل .
فحاصله : أن الحد لم يقم على واحد بعينه ، لعدم ظهوره بالحجة الشرعية التي يعلمه
بها الخاص والعام ، أو لعدم إمكان إقامته ، إلا مع تنفير أقوام عن الدخول في
الإسلام ، وارتداد آخرين عنه ، وإظهار قوم من الحرب والفتنة ما يربى فساده على فساد
ترك قتل منافق ، وهذان المعنيان حكمهما باق إلى يومنا هذا " انتهى من "الصارم
المسلول" (3 / 673 – 681).
والله أعلم .