الحمد لله.
أولاً :
الذرائع جمع ذريعة ، وهي في اللغة : الوسيلة إلى الشيء .
ويقصد بها في اصطلاح الفقهاء والأصوليين : ما كان ظاهره الإباحة ، لكنه يفضي ويؤول
إلى المفسدة أو الوقوع في الحرام .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَالذَّرِيعَةُ : مَا كَانَ وَسِيلَةً وَطَرِيقًا إلَى الشَّيْءِ ، لَكِنْ
صَارَتْ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ : عِبَارَةً عَمَّا أَفَضْت إلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ
، وَلَوْ تَجَرَّدَتْ عَنْ ذَلِكَ الْإِفْضَاءِ : لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَفْسَدَةٌ .
وَلِهَذَا قِيلَ : الذَّرِيعَةُ الْفِعْلُ الَّذِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُبَاحٌ ،
وَهُوَ وَسِيلَةٌ إلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمِ " .
انتهى من " الفتاوى الكبرى " لابن تيمية (6/172) .
وقال الشاطبي رحمه الله :
" حَقِيقَتَهَا : التَّوَسُّلُ بِمَا هُوَ مَصْلَحَةٌ ، إِلَى مَفْسَدَةٍ " انتهى
من " الموافقات " (5/183) .
وعليه ، فالمقصود بقولهم : "
سد الذرائع " ، أي : سد الطرق المؤدية إلى الفساد ، وقطع الأسباب الموصلة إليه ،
وحسم مادة الفساد ، من أصلها .
قال القرافي رحمه الله :
" سَدُّ الذَّرَائِعِ ، وَمَعْنَاهُ : حَسْمُ مَادَّةِ وَسَائِلِ الْفَسَادِ ؛
دَفْعًا لَهَا ، فَمَتَى كَانَ الْفِعْلُ السَّالِمُ عَنْ الْمَفْسَدَةِ ،
وَسِيلَةً لِلْمَفْسَدَةِ : مَنَعَ الإمام مَالِكٌ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ " انتهى
من " الفروق " (2/32) .
ثانياً :
دل على العمل بقاعدة : " سد الذرائع " أدلة من الكتاب ، والسنة .
وممن أطال في ذكر تلك الأدلة : شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتليمذه ابن القيم رحمهما
الله ، بل عدّ ابن القيم رحمه الله باب : " سد الذرائع " : ربع الدين .
فمن تلك الأدلة :
1. قوله تعالى : ( وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ
زِينَتِهِنَّ ) النور / 31 ، فمنع النساء من الضرب بالأرجل ، وإن كان جائزا في نفسه
؛ لئلا يكون سبباً إلى سماع الرجال صوت الخلخال ، فيثير ذلك دواعي الشهوة لديهم .
2. أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يكف عن قتل المنافقين ، مع كونه مصلحة ؛ لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس
عنه ، وقولهم : إن محمدا يقتل أصحابه ، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ، ممن
دخل فيه ، ومن لم يدخل فيه ، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم ، ومصلحة
التأليف أعظم من مصلحة القتل .
وللاطلاع على غير ذلك من
الأدلة ، ينظر : " الفتاوى الكبرى " لابن تيمية (6/174 - 180) ، و" إعلام الموقعين
" لابن القيم (3/126) ، فقد ذكرا رحمهما الله من الشواهد والنصوص ما يدل على اعتبار
قاعدة : " سد الذرائع " .
هذا ، وقد اتفق العلماء
رحمهم الله على العمل بقاعدة : " سد الذرائع " ، في الجملة .
قال الشيخ مصطفى مخدوم حفظه الله :
" وبتحرير محل الخلاف يتضح لنا : أن أصل سد الذرائع متفق عليه ، ومعمول به في
الجملة ، وإنما وقع الخلاف في بعض أنواعه ، وفي بعض الفروع الفقهية التي تتفاوت
فيها قوة وقوع المفسدة ، وظهور القصد إليها .
قال الإمام القرافي رحمه الله : " فليس سد الذرائع خاصاً بمالك رحمه الله ، بل قال
بها هو أكثر من غيره ، وأصل سدها مجمع عليه " .
وقال أيضاً : " وإنما النزاع في ذرائع خاصة ، وهي بيوع الآجال ونحوها " .
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله : " قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة ،
وإنما الخلاف في أمر آخر " ..... " انتهى من " قواعد الوسائل " (ص/371-372) .
ثالثاً :
الذرائع من جهة ما يجب سده ، وما لا يجب سده ، قد قسمها أهل العلم رحمهم الله ، إلى
ثلاثة أقسام .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله :
" وَقد تقرر فِي الْأُصُول ، أَن الذرائع ثَلَاثَة أَقسَام : وَاسِطَة وطرفان .
1. طرف يجب سَده إِجْمَاعًا ، كسب الْأَصْنَام إِذا كَانَ عابدوها يسبون الله
مجازاة على سبّ أصنامهم ؛ فسب الْأَصْنَام فِي حد ذَاته مُبَاح ، فَإِذا كَانَ
ذَرِيعَة لسب الله : مُنِع بِنَصّ قَوْله تَعَالَى : ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ،
وكحفر الْآبَار فِي طَرِيق الْمُسلمين ؛ فإنه ذَرِيعَة لترديهم فِيهَا .
2. وطرف لَا يجب سَده
إِجْمَاعًا ، وَهُوَ مَا كَانَت الْمفْسدَة فِيهِ تعارضها مصلحَة عظمى أرجح مِنْهَا
؛ كغرس شجر الْعِنَب ، فإنه ذَرِيعَة إِلَى عصر الْخمر مِنْهُ ، وعصرها ذَرِيعَة
لشربها ، إِلَّا أَن مصلحَة انْتِفَاع الْأمة بالعنب وَالزَّبِيب فِي أقطار
الدُّنْيَا : أرجح من مفْسدَة عصر بعض الْأَفْرَاد للخمر مِنْهَا . فقد أجمع
الْمُسلمُونَ على جَوَاز غرس شجر الْعِنَب ، إِلْغَاءً للمفسدة المرجوحة
بِالْمَصْلَحَةِ الراجحة ... .
3. وواسطة هِيَ مَحل الْخلاف
بَين الْعلمَاء ، كالبيوع الَّتِي يسميها الْمَالِكِيَّة : بُيُوع الْآجَال ،
ويسميها الْحَنَابِلَة وَالشَّافِعِيَّة : بيع الْعينَة ، كَأَن يَبِيع سلْعَة
بِثمن إِلَى أجل ، ثمَّ يَشْتَرِيهَا بِعَينهَا بِثمن أَكثر من الأول ، لأجلٍ أبعد
من الأول . فكلتا البيعتين فِي حد ذَاتهَا يظْهر أَنَّهَا جَائِزَة ، لِأَنَّهَا
بيع سلْعَة بِثمن إِلَى أجل مَعْلُوم ، وَمن هُنَا قَالَ الشَّافِعِي وَزيد بن
أَرقم بِجَوَاز ذَلِك .
وَلكنه يحْتَمل أَن يكون ذَلِك ذَرِيعَة للربا ؛ لِأَن السّلْعَة الْخَارِجَة من
الْيَد ، العائدة إِلَيْهَا : ملغاة ، فيؤول الْأَمر إِلَى أَنه عِنْد الْأَجَل
الأول : دفع نَقْدا وَأخذ عِنْد الْأَجَل الثَّانِي أَكثر مِنْهُ ؛ وَهَذَا عين
الرِّبَا . كَمَا أنكرته عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا على زيد بن أَرقم ، وبالمنع
قَالَ مَالك وَأَصْحَابه وَأحمد وَأكْثر أَصْحَابه " انتهى من " منهج التشريع
الإسلامي وحكمته " للشيخ الشنقيطي (ص/27-28) .
وينظر – أيضاً – " الفروق " للقرافي رحمه الله (2/32) ، فقد ذكر تلك الأقسام التي
ذكرها الشيخ الشنقيطي رحمه الله .
وقال الشاطبي رحمه الله :
" وَهُوَ مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ نَادِرًا ؛ فَهُوَ عَلَى
أَصْلِهِ مِنَ الْإِذْنِ ، لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ إِذَا كَانَتْ غَالِبَةً ؛ فَلَا
اعْتِبَارَ بِالنُّدُورِ فِي انْخِرَامِهَا ، إِذْ لَا تُوجَدُ فِي الْعَادَةِ
مَصْلَحَةٌ عَرِيَّةٌ عَنِ الْمَفْسَدَةِ جُمْلَةً ؛ إِلَّا أَنَّ الشَّارِعَ
إِنَّمَا اعْتَبَرَ فِي مَجَارِي الشَّرْعِ غَلَبَةَ الْمَصْلَحَةِ ، وَلَمْ
يَعْتَبِرْ نَدُورَ الْمَفْسَدَةِ؛ إِجْرَاءً لِلشَّرْعِيَّاتِ مَجْرَى
الْعَادِيَّاتِ فِي الْوُجُودِ " انتهى من " الموافقات " (3/68) .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله
:
" الذَّرِيعَةَ إلَى الْفَسَادِ يَجِبُ سَدُّهَا ، إذَا لَمْ يُعَارِضْهَا
مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ ، وَلِهَذَا كَانَ النَّظَرُ الَّذِي يُفْضِي إلَى
الْفِتْنَةِ مُحَرَّمًا ، إلَّا إذَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ ، مِثْلُ نَظَرِ
الْخَاطِبِ ، وَالطَّبِيبِ ، وَغَيْرِهِمَا ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ
لِلْحَاجَةِ ، لَكِنْ مَعَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ " .
انتهى من " الفتاوى الكبرى " (1/287) .
وللاستزادة في مسألة : " سد
الذرائع " ينظر كتاب : " سد الذرائع في الشريعة الإسلامية " للشيخ محمد هشام
البرهاني رحمه الله ، وهو كتاب موسع ومفيد ، وينظر أيضاً " قواعد الوسائل في
الشريعة الإسلامية " للشيخ الدكتور مصطفى بن كرامة الله مخدوم حفظه الله ، عند
كلامه عن قاعدة : " سد الذرائع " ( ص363 وما بعدها ) .
والله أعلم .