الحمد لله.
ومن المقرر أن هذه الأحكام إنما شرعت من باب سد ذرائع الفتنة ، كما أشار إليه
الحافظ ابن حجر في كلامه السابق ، والذرائع تختلف قوة وضعفا من زمن إلى آخر ، ومن
مجتمع إلى آخر ، ولهذا فإن طرق سدّها قد تختلف باختلاف قوة هذه الذرائع وضعفها .
ومما يشير إلى هذا قول عائشة رضي الله عنها : " لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ
، كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ " رواه البخاري (869) ، ومسلم (445)
واللفظ له .
قال ابن رجب رحمه الله تعالى :
" تشير عائشةُ رضي الله عنها إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرخص في بعض ما
يرخص فيه ، حيث لم يكن في زمنه فساد ، ثم يطرأ الفساد ويحدث بعده ، فلو أدرك ما حدث
بعده ، لما استمر على الرخصة ، بل نهى عنه ؛ فإنه إنما يأمرُ بالصلاح ، وينهى عن
الفساد .
وشبيهٌ بهذا: ما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعهد أبي بكر ، وعمر ، من
خروج الإماء إلى الأسواق بغير خمار ، حتى كان عمر يضرب الأمه إذا رآها منتقبةً ، أو
مستترة ، وذلك لغلبة السلامه في ذلك الزمان ، ثم زال ذلك ، وظهر الفساد وانتشر ،
فلا يرخص حينئذٍ فيما كانوا يرخصون فيه " انتهى من " فتح الباري " (8 / 41) .
فسلامة قلوب الصحابة رضي الله عنهم ، وقوة إيمانهم ، وخوفهم من الله ، ثم قيام
سلطان الشرع من وراء ذلك ، يحذره أهل الفساد والريب كل ذلك كان يسمح بمثل ذلك ؛ حيث
لا يترتب عليه مفسدة ، أما بعدهم فالواجب منع المفسدة ، ولو كان ذلك بمنع خروج
النساء إلى المساجد من الأصل ، كما قالت عائشة رضي الله عنها .
فعدم وجود حاجز في المسجد بين الرجال والنساء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم
يكن سببه عدم مشروعية مثل هذا الحاجز ، وإنما سببه عدم الحاجة إليه ، فإذا وجدت
الحاجة بعد ذلك كان وجوده مشروعا ، بحسب الحال .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
" النساء في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلين ، وليس بينهن وبين الرجال
حاجز.
ولكن النبي صلى عليه وعلى آله وسلم ندب إلى شيئين : الشيء الأول: أنه قال: ( بيوتهن
خير لهن ) ، مع سلامة الناس في ذلك الوقت، فالصحابة هم خير القرون ، ومع ذلك قال: (
وبيوتهن خير لهن ) ؛ وهذا يعني أن صلاة المرأة في بيتها أفضل.
ثانياً: أنه قال: ( خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها ) ؛ وهذا يدل على أن الأفضل
أن تبتعد المرأة عن مخالطة الرجل ، هذه واحدة .
أما أنه ليس بينهما من حاجز، فهل المساجد في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام
كمساجدنا اليوم في الإضاءة والإنارة ؟ لا ، وهل نساء الصحابة كنساء اليوم؟ لا " .
انتهى من " لقاء الباب المفتوح " (218 / 22 بترقيم الشاملة) .
وبهذا يظهر أن إقامة فاصل بين النساء والرجال في المسجد ، عند وجود الحاجة الداعية إليه : ليس من البدع ؛ بل هو من باب المصالح المرسلة التي شهد صنيع الشارع ، وتصرفاته ، باعتبار أصلها .
ثانيا :
أما صلاة النساء في المسجد في غرفة منفصلة عن مكان الرجال ، وكذلك لو كانت في
الطابق الثاني – مثلا – فلا بأس بذلك ، وتحصل المتابعة للإمام بسماع صوته عن طريق
مكبرات الصوت .
قال النووي رحمه الله تعالى :
" يشترط لصحة الاقتداء : علم المأموم بانتقالات الإمام ؛ سواء صليا في المسجد أو في
غيره ، أو أحدهما فيه والآخر في غيره . وهذا مجمع عليه .
قال أصحابنا : ويحصل له العلم بذلك : بسماع الإمام ، أو من خلفه ، أو مشاهدة فعله ،
أو فعل من خلفه .
ونقلوا الإجماع في جواز اعتماد كل واحد من هذه الأمور" انتهى من " المجموع " (4 /
309) .
ويستدل لذلك بحديث عَائِشَةَ ، قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فِي حُجْرَتِهِ ، وَجِدَارُ الحُجْرَةِ
قَصِيرٌ ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ،
فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ ، فَأَصْبَحُوا فَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ ...
" .
وقد رواه البخاري (729) تحت باب : (باب : إذا كانَ بينَ الإِمَامِ وَبَيْنَ
القَوْمِ حَائِطٌ ، أَوْ سُتْرَةٌ . وقال الحسنُ : لا بأس أن تصلِّي وبينكَ وبينهُ
نهر. وقال أبو مجلزٍ: يأتمُّ بالإمامِ - وإنْ كانَ بينهما طَريقٌ أو جدارٌ - إذا
سمعَ تكبيرَ الإمامِ ) .
ففي هذه الحادثة : لم ير الصحابة شخص النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الصلاة ، بل
الرؤية كانت في حال القيام فقط ، لوجود الجدار القصير الحائل بينهم .
قال ابن رجب رحمه الله تعالى :
" مراد البخاري بهذا الباب : أنه يجوز اقتداء المأموم بالإمام ، وإن كان بينهما
طريق أو نهر ، أو كان بينهما جدار يمنع المأموم من رؤية إمامه ؛ إذا سمع تكبيره " .
انتهى من "فتح الباري " (6 / 297) .
وقد سُئل الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى:
" لدينا مسجد مكون من طابقين ، الدور العلوي للرجال والدور السفلي للنساء ، وتقوم
النساء بالصلاة فيه جماعة مع الرجال ، وهن في الدور السفلي ، والرجال في الدور
العلوي ، ولا ترى النساء الإمام ، ولا حتى صفوف الرجال ، ولكن يسمعن التكبير من
خلال ( الميكرفون ) فما حكم الصلاة في هذه الحالة ؟
فأجاب : ما دام الحال ما ذكر فصلاة الجميع صحيحة ، لكونهم جميعا في المسجد ،
والاقتداء ممكن بسبب سماع صوت الإمام بواسطة المكبر ، وهذا هو الأصح من قولي
العلماء .
وإنما الخلاف ذو الأهمية : فيما إذا كان بعض المأمومين خارج المسجد ، ولا يرى
الإمام ، ولا المأمومين، والله ولي التوفيق " انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (12 /
213 – 214) .
وسُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
" ما حكم صلاة النساء في المساجد التي لا يرين فيها الإمام ولا المأمومين ، وإنما
يسمعن الصوت فقط ؟
فأجاب : يجوز للمرأة ، وللرجل أيضاَ : أن يصلي مع الجماعة في المسجد ، وإن لم ير
الإمام ولا المأمومين ، إذا أمكن الاقتداء ، فإذا كان الصوت يبلغ النساء في مكانهن
من المسجد ، ويمكنهن أن يقتدين بالإمام : فإنه يصح أن يصلين الجماعة مع الإمام ؛
لأن المكان واحد ، والاقتداء ممكن ، سواء كان عن طريق مكبر الصوت ، أو عن طريق
مباشر بصوت الإمام نفسه ، أو بصوت المبلغ عنه ، ولا يضر إذا كن لا يرين الإمام ولا
المأمومين " .
انتهى من " مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " (15/ 211) .
والله أعلم .