الحمد لله.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" (لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ) وَجْهُ عَوْنِهِمُ الشَّيْطَانَ بِذَلِكَ: أَنَّ الشَّيْطَانَ يُرِيدُ بِتَزْيِينِهِ لَهُ الْمَعْصِيَةَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الْخِزْيُ ، فَإِذَا دَعَوْا عَلَيْهِ بِالْخِزْيِ ، فَكَأَنَّهُمْ قَدْ حَصَّلُوا مَقْصُودَ الشَّيْطَانِ" . انتهى من " فتح الباري " (12/ 67) .
وقال القاري رحمه الله :
" قَالَ الْقَاضِي: فَإِنَّهُ إِذَا أَخْزَاهُ الرَّحْمَنُ ، غَلَبَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ، أَوْ لِأَنَّهُ إِذَا سَمِعَ ذَلِكَ أَيِسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَانْهَمَكَ فِي الْمَعَاصِي ، أَوْ حَمَلَهُ اللِّجَاجُ وَالْغَضَبُ عَلَى الْإِصْرَارِ، فَيَصِيرُ الدُّعَاءُ وَصْلَةً وَمَعُونَةً فِي إِغْوَائِهِ وَتَسْوِيلِهِ " انتهى من " مرقاة المفاتيح " (6/ 2374) .
وروى أبو داود في "الزهد" (232) عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، أَنَّهُ قَالَ: " مُرَّ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ بِرَجُلٍ يُقَادُ فِي حَدٍّ أَصَابَهُ قَالَ: فَنَالَ الْقَوْمُ مِنْهُ ، فَقَالَ: لَا تَسُبُّوا أَخَاكُمْ ، وَاحْمَدُوا اللَّهَ الَّذِي عَافَاكُم ، قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ رَأَيْتُمُوهُ فِي قَلِيبٍ أَكُنْتُمْ مُسْتَخْرِجِيهِ ؟ ، قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: فَلَا تَسُبُّوا أَخَاكُمْ، وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الَّذِي عَافَاكُمْ ، فَقِيلَ: لَهُ أَتُبْغِضُهُ؟ فَقَالَ: " إِنِّي لَا أُبْغِضُهُ، وَلَكِنْ أُبْغِضُ عَمَلَهُ ، فَإِذَا تَرَكَهُ كَانَ أَخِي " .
والحاصل :
أن المسلم مع أخيه المسلم على النصيحة وحب الخير له ، وإن وقع في المعصية ، فلا يعين الشيطان عليه ، ولا يدعو عليه ، ولا يحتقره ، ولكن ينصحه ، وينكر عليه ، ويبغض فعله ، ويسأل الله العافية ، ويدعو لصاحبه بالستر والتوبة والمغفرة .
إلا إذا كان هذا العاصي مجاهرا بمعصيته ، معلنا لها ، فهذا مذموم منبوذ ، يبغض في الله بقدر معصيته ، وتتخذ كل السبل المتاحة لرده عن غيه ، وكفاية الناس شره ، ولو بهجره ؛ لأنه يستطيل بالمعصية ، ويفاخر بها ، ولا يسلم الناس منه .
عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ، ثم يصبح وقد ستره الله عليه ، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ، ويصبح يكشف ستر الله عنه ).
رواه البخاري ( 5721 ) ، ومسلم ( 2990 ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" إذَا أَظْهَرَ الرَّجُلُ الْمُنْكَرَاتِ : وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ عَلَانِيَةً ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ غِيْبَةٌ ، وَوَجَبَ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَانِيَةً بِمَا يَرْدعُهُ عَنْ ذَلِكَ ، مِنْ هَجْرٍ وَغَيْرِهِ ؛ فَلَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ؛ إذَا كَانَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ ، مِنْ غَيْرِ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ. وَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ أَنْ يَهْجُرُوهُ مَيِّتًا [أي : بترك تشييع جنازته] ، كَمَا هَجَرُوهُ حَيًّا ، إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ كَفٌّ لِأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُجْرِمِينَ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (28/ 217) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" مَنْ قَصَدَ إِظْهَارَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُجَاهَرَةَ بِهَا : أَغْضَبَ رَبَّهُ ، فَلَمْ يَسْتُرْهُ .
وَمَنْ قَصَدَ التَّسَتُّرَ بِهَا حَيَاءً مِنْ رَبِّهِ وَمِنَ النَّاسِ : مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِسَتْرِهِ إِيَّاهُ " .
انتهى من "فتح الباري" (10/ 488) .
ففرق بين من غلبته نفسه فطاوع هواه وعصى الله ، لكنه لم يجاهر بمعصيته ، ولا أصر عليها : فهذا يستر عليه ، وينصح ، ويذكر بالله ، ويدعى له بالهداية ، ولا يحتقر ، ولا يهان ، ويدعى إلى التوبة ، فإن تاب ، فربما كان حاله بعد التوبة أصلح من حاله قبل الذنب .
بخلاف المشاق المجاهر المعاند المفاخر بالمعصية ، فإن هذا ينكر عليه وينصح ويدعى له بالهداية أيضا ، فإذا أصر ولم يزدجر ، عوقب وذُكر في الناس بالسوء ، وهجروه ، وعابوه ، وحذروا الناس منه .
ومثل هذا لا يقال في حقه : " لعله عند الله أحسن حالا منا " فإن حاله من أسوأ الأحوال ، وهو متعرض لمقت الله وغضبه وعاجل عقوبته .
نسأل الله أن يتوب علينا ، وعلى كل مسلم .
والله أعلم .