الحمد لله.
فمن كان ذا عزيمة وحزم ، وجب عليه الانتهاء عن التدخين فورا ، ووجب على المحتسب والداعية أن يبين له ما يجب عليه من ذلك ، وأن ينهاه عن المنكر كله .
وأما إذا رأى المصلح أو
الداعية أن شارب الدخان ليس عنده من العزيمة ما يجعله يترك المحرم فورا ، فإنه
لابأس بالتدرج معه والتقليل من المحرم شيئا فشيئا ، فإن الشريعة جاءت بمنع المنكر
والمحرم ، فإن لم يمكن منعه بالكلية ، فالمشروع السعي في تقليله بقدر الإمكان ،
لاسيما إذا كان هذا التقليل يُرجى أن يكون وسيلة لمنعه بالكلية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، وأنها ترجح
خير الخيرين وشر الشرين ، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ، وتدفع أعظم
المفسدتين باحتمال أدناهما " انتهى من " مجموع الفتاوى " (20 / 48) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
"إنكار المنكر أربع درجات :
الأولى : أن يزول ويخلفه ضده .
الثانية : أن يقل ، وإن لم يزل بجملته .
الثالثة : أن يخلفه ما هو مثله .
الرابعة : أن يخلف ما هو شر منه .
فالدرجتان الأوليان : مشروعتان ، والثالثة موضع اجتهاد ، والرابعة محرمة " .
انتهى من "إعلام الموقعين" (3/4) .
ثانيا :
هناك فرق بين التدرج مع فاعل المعصية حتى يتمكن من تركها في النهاية ، كالصورة
الواردة في السؤال ، وبين التدرج في تحريم الخمر .
فالتدرج في الخمر كان تدرجا في الحكم نفسه ، من الإباحة إلى التحريم الجزئي ، ثم
إلى التحريم المطلق القاطع .
وهذا التدرج في الأحكام : قد انتهى بإكمال الشريعة ، واستقرار أحكامها ، ولم يعد
صالحا للبناء عليه في مثل ذلك ، ولا للتدرج في تحريم المحرم ، أو اعتقاد حرمته .
ومن ذلك : شرب الدخان ، فإذا
اعتقدنا أنه محرم ؛ لم يكن هناك وجه لقياس التدرج في تحريمه على تحريم شرب الخمر ،
فيحرم كثيره مثلا ، ويباح قليله ، ثم بعد مدة : يحرم كله ، أو يبين للشارب أنه كله
حرام .
وإنما المشروع في مثل ذلك : التدرج في أمره بالمعروف ، ونهيه عن منكر الدخان وغيره
بحسب الأهمية ، والإمكان ؛ فينهى عن المنكر الأشد ، وإن استلزم ذلك تأخير نهيه عما
هو دونه ، إن كان معلوما أن لن يطيع في الجانبين ، وينهى عن بعض المنكر ، إذا كان
لا يمكن أن يدعه بالكلية ، كما هنا ؛ فإذا كان معلوما من حال هذا المدخن : أن لن
يقلع عنه بالكلية ؛ فلا بأس أن يتدرج الداعية معه شيئا ، فشيئا ، حتى يقلع عنه
تماما ، أو قدر المستطاع ، وقد الله تعالى : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) التغابن/16 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَتَدَبَّرَ أَنْوَاعَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛
وَقَدْ يَكُونُ الْوَاجِبُ فِي بَعْضِهَا - كَمَا بَيَّنْته فِيمَا تَقَدَّمَ -:
الْعَفْوَ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ؛ لَا التَّحْلِيلَ
وَالْإِسْقَاطَ .
مِثْلَ : أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرِهِ بِطَاعَةِ ، فِعْلًا لِمَعْصِيَةِ أَكْبَرَ
مِنْهَا ؛ فَيَتْرُكُ الْأَمْرَ بِهَا دَفْعًا لِوُقُوعِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ ،
مِثْلَ أَنْ تَرْفَعَ مُذْنِبًا إلَى ذِي سُلْطَانٍ ظَالِمٍ فَيَعْتَدِي عَلَيْهِ
فِي الْعُقُوبَةِ ، مَا يَكُونُ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِنْ ذَنْبِهِ .
وَمِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي نَهْيِهِ عَنْ بَعْضِ الْمُنْكَرَاتِ ، تَرْكًا
لِمَعْرُوفِ هُوَ أَعْظَمُ مَنْفَعَةً مِنْ تَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ ؛ فَيَسْكُتُ
عَنْ النَّهْيِ ، خَوْفًا أَنْ يَسْتَلْزِمَ تَرْكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ
وَرَسُولُهُ ، مِمَّا هُوَ عِنْدَهُ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ تَرْكِ ذَلِكَ
الْمُنْكَرِ.
فَالْعَالِمُ : تَارَةً يَأْمُرُ ، وَتَارَةً يَنْهَى ، وَتَارَةً يُبِيحُ ،
وَتَارَةً يَسْكُتُ عَنْ الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ أَوْ الْإِبَاحَةِ ، كَالْأَمْرِ
بِالصَّلَاحِ الْخَالِصِ أَوْ الرَّاجِحِ ، أَوْ النَّهْيِ عَنْ الْفَسَادِ
الْخَالِصِ أَوْ الرَّاجِحِ .
وَعِنْدَ التَّعَارُضِ : يُرَجَّحُ الرَّاجِحُ - كَمَا تَقَدَّمَ - بِحَسَبِ
الْإِمْكَانِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمُمْكِنِ:
إمَّا لِجَهْلِهِ ، وَإِمَّا لِظُلْمِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ إزَالَةُ جَهْلِهِ
وَظُلْمِهِ ؛ فَرُبَّمَا كَانَ الْأَصْلَحُ الْكَفَّ وَالْإِمْسَاكَ عَنْ أَمْرِهِ
وَنَهْيِهِ.. " .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (20/58) ، وينظر للفائدة : " الاستقامة " ، لشيخ الإسلام
أيضا (2/212) وما بعدها .
والله أعلم .