الحمد لله.
ويقول أيضا رحمه الله:
" فإن قيل:
قد قال الله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى) إلى
قوله: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ
فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ
يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
فأخبر أنهم يحيون الرسول تحية منكرة ، وأخبر أن العذاب في الآخرة يكفيهم عليها،
فعلم أن تعذيبهم في الدنيا ليس بواجب.
وعن أنس بن مالك قال: (مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السام عليك
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: يقول: السام عليك. قالوا: يا رسول الله ألا نقتله؟
قال: لا، إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم) رواه البخاري.
ومثل هذا الدعاء أذى للنبي صلى الله عليه وسلم وسب له، ولو قاله المسلم لصار به
مرتدا؛ لأنه دعاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته بأنه يموت، وهذا فعل
كافر، ومع هذا فلم يقتلهم، بل نهى عن قتل اليهودي الذي قال ذلك لما استأمره أصحابه
في قتله.
قلنا:
عن هذا أجوبة .... [فذكر منها]:
الجواب الثالث: أن قول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له: (ألا نقتله) لما أخبرهم
أنه قال: (السام عليكم) : دليل على أنه كان مستقرا عندهم قتل الساب من اليهود؛
لمَّا رأوه قتل ابنَ الأشرف والمرأة وغيرهما، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن
قتله، وأخبرهم أن مثل هذا الكلام حقه أن يقابل بمثله ؛ لأنه ليس إظهارا للسب والشتم
من جنس ما فعلت تلك اليهودية وابن الأشرف وغيرهما، وإنما هو إسرار به كإسرار
المنافقين بالنفاق .
الجواب الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يعفو عمن شتمه وسبه في حياته
، وليس للأمة أن يعفوا عن ذلك.
يوضح ذلك : أنه لا خلاف أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه بعد موته من
المسلمين كان كافرا حلال الدم، وكذلك من سب نبيا من الأنبياء، ومع هذا فقد قال الله
تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى
فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا) وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ
يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)
فكان بنو إسرائيل يؤذون موسى في حياته بما لو قاله اليوم أحد من المسلمين وجب قتله
، ولم يقتلهم موسى عليه السلام، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يقتدى به في ذلك،
فربما سمع أذاه أو بلغه فلا يعاقب المؤذي على ذلك، قال الله تعالى: (وَمِنْهُمُ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) الآية. وقال تعالى: (وَمِنْهُمْ
مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ
يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ)
وفي رواية لمسلم: فقال: (يا رسول الله اتق الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟ قال: ثم ولى الرجل. فقال خالد بن الوليد:
يا رسول الله ألا أضرب عنقه. فقال: لا، لعله أن يكون يصلي)
فهذا الرجل قد نص القرآن أنه من المنافقين بقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي
الصَّدَقَاتِ) أي يعيبك ويطعن عليك، نسب للنبي صلى الله عليه وسلم أنه جار ولم يتق
الله.
ومثل هذا الكلام لا ريب أنه يوجب القتل لو قاله اليوم أحد، وإنما لم يقتله النبي
صلى الله عليه وسلم لأنه كان يظهر الإسلام ، وهو الصلاة التي يقاتل الناس حتى
يفعلوها، وإنما كان نفاقه بما يخص النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى ، وكان له أن
يعفو عنه، وكان يعفو عنهم تأليفا للقلوب، لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه.
ومن ذلك قول الأنصاري - الذي حاكم الزبير في شراج الحرة لما قال له صلى الله عليه
وسلم: اسق يا زبير ثم سرح الماء إلى جارك - فقال: أن كان ابن عمتك؟
فهذا الباب كله ؛ مما يوجب القتل ، ويكون به الرجل كافرا منافقا حلال الدم : كان
النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء عليهم السلام يعفون ويصفحون عمن قاله ،
امتثالا لقوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجَاهِلِينَ) وكقوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقوله تعالى: (وَلا
تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا
الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا
يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)
وكقوله تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) وكقوله تعالى:
(وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُم) وذلك لأن درجة
الحلم والصبر على الأذى والعفو عن الظلم أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة ، يبلغ
الرجل بها ما لا يبلغه بالصيام والقيام ؛ قال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وقال تعالى: (وَجَزَاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه)
فجعل الله لهم أن يعفوا عن مثل هذا النوع، ووسع عليهم ذلك؛ لما فيه من حق الآدمي،
تغليبا لحق الآدمي على حق الله، كما جعل لمستحق القَوَد [أي : القصاص] ، وحد القذف
: أن يعفو عن القاتل والقاذف، وهم أولى؛ لما في جواز عفو الأنبياء ونحوهم من
المصالح العظيمة المتعلقة بالنبي وبالأمة وبالدين.
وهذا معنى قول عائشة رضي الله عنها: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده
خادما له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا انتقم
لنفسه قط)
وفي لفظ: (ما نيل منه شيء فانتقمه من صاحبه، إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت
محارم الله لم يقم لغضبة شيء حتى ينتقم لله) متفق عليه.
ومعلوم أن النيل منه أعظم من انتهاك المحارم، لكن لما دخل فيها حقه ، كان الأمر
إليه في العفو أو الانتقام، فكان يختار العفو، وربما أمر بالقتل إذا رأى المصلحة في
ذلك، بخلاف ما لا حق له فيه ، من زنا أو سرقة أو ظلم لغيره، فإنه يجب عليه القيام
به.
وقد كان أصحابه إذا رأوا من يؤذيه أرادوا قتله لعلمهم بأنه يستحق القتل، فيعفو هو
عنه صلى الله عليه وسلم، ويبين لهم أن عفوه أصلح، مع إقراره لهم على جواز قتله، ولو
قتله قاتل قبل عفو النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يعرض له النبي صلى الله عليه وسلم،
لعلمه بأنه قد انتصر لله ورسوله، بل يحمده على ذلك ويثني عليه، كما قتل عمر رضي
الله عنه الرجل الذي لم يرض بحكمه، وكما قتل رجل بنت مروان، وآخر اليهودية السابة.
فإذا تعذر عفوه بموته صلى الله عليه وسلم بقي حقا محضا لله ولرسوله وللمؤمنين، لم
يعف عنه مستحقه، فتجب إقامته.
ومما يوضح ذلك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعفو عن المنافقين الذين لا
يشك في نفاقهم، حتى قال: (لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له ، لزدت) حتى نهاه
الله عن الصلاة عليهم، والاستغفار لهم، وأمره بالإغلاظ عليهم .
فكثير مما كان يحتمله من المنافقين ، من الكلام ، وما يعاملهم من الصفح والعفو
والاستغفار : كان قبل نزول براءة ، لما قيل له : (وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ
وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ) ؛ لاحتياجه إذ ذاك إلى استعطافهم ، وخشية نفور
العرب عنه إذا قتل أحدا منهم ، فإن الناس ينظرون إلى ظاهر الأمر، فيرون واحدا من
أصحابه قد قُتِل، فيظن الظان أنه يقتل بعض أصحابه على غرض ، أو حقد ، أو نحو ذلك ،
فينفر الناس عن الدخول في الإسلام ، وإذا كان من شريعته أن يتألف الناس على الإسلام
بالأموال العظيمة ليقوم دين الله وتعلو كلمته ، فلأن يتألفهم بالعفو أولى وأحرى.
فلما أنزل الله براءة ونهاه عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم، وأمره أن
يجاهد الكفار والمنافقين ويغلظ عليهم ؛ نسخ جميع ما كان المنافقون يعامَلون به من
العفو، كما نسخ ما كان الكفار يعامَلون به من الكف عمن سالم، ولم يبق إلا إقامة
الحدود، وإعلاء كلمة الله في حق الإنسان.
فإن قيل:
فقد قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ
يَشْتَرُونَ الضَّلالَة) إلى قوله: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ
وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ)
فهؤلاء قد سبوه صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام ، ولووا ألسنتهم به، واستهزءوا به،
وطعنوا في الدين، ومع ذلك فلم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم؟!
قلنا: عن ذلك أجوبة:
أحدها:
أن ذلك كان في حال ضعف الإسلام، في الحال التي أخبر الله عن رسوله والمؤمنين أنهم
يسمعون من الذين أوتوا الكتاب والمشركين أذى كثيرا، وأمرهم بالصبر والتقوى.
ثم إن ذلك نسخ عند القوة بالأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون،
والصاغر لا يفعل شيئا من الأذى في الوجه، ومن فعله فليس بصاغر.
ثم إن من الناس من يسمي ذلك نسخا لتغير الحكم ، ومنهم من لا يسميه نسخا؛ لأن الله
تعالى أمرهم بالعفو والصفح إلى أن يأتي الله بأمره ، وقد أتى الله بأمره من عز
الإسلام وإظهاره، والأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون... والخلاف
لفظي.
ومن الناس من يقول: الأمر بالصفح باق عند الحاجة إليه بضعف المسلم عن القتال ، بأن
يكون في وقت أو مكان لا يتمكن منه ، وذلك لا يكون منسوخا، إذ المنسوخ ما ارتفع في
جميع الأزمنة المستقبلة.
وبالجملة : فلا خلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفروضا عليه لما قوي ، أن
يترك ما كان يعامل به أهل الكتاب والمشركين ومظهري النفاق من العفو والصفح ؛ إلى
قتالهم وإقامة الحدود عليهم ، سُميَ نسخا أو لم يُسم.
الجواب الثاني:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان له أن يعفو عمن سبه ، وليس للأمة أن تعفو عمن
سبه، كما قد كان يعفو عمن سبه من المسلمين، مع أنه لا خلاف بين المسلمين في وجوب
قتل من سبه من المسلمين.
فإن قيل:
أهل الذمة قد أقررناهم على دينهم، ومِن دينهم استحلال سب النبي صلى الله عليه وسلم،
فإذا قالوا ذلك ، لم يقولوا غير ما أقررناهم عليه ، وهذه نكتة المخالف.
قلنا:
ومِن دينهم استحلال قتال المسلمين ، وأخذ أموالهم ، ومحاربتهم بكل طريق، ومع هذا
فليس لهم أن يفعلوا ذلك بعد العهد، ومتى فعلوه ، نقضوا العهد .
وذلك لأنا - وإن كنا نقرهم على أن يعتقدوا ما يعتقدونه ، ويخفوا ما يخفونه - فلم
نقرهم على أن يظهروا ذلك، ويتكلموا به بين المسلمين، ونحن لا نقول بنقض عهد الساب
حتى نسمعه يقول ذلك، أو يشهد به المسلمون، ومتى حصل ذلك كان قد أظهره وأعلنه" .
انتهى باختصار من "الصارم المسلول" (ص221-247) .
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم: (234071)
.