لماذا لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم الحد على المنافقين ؟

05-08-2016

السؤال 240982


كيف يرد على من يقول : إن المنافقين أظهروا نفاقهم ، فأصبحوا زنادقة ، ومع ذلك لم يكفرهم، ولم يقتلهم ، أو يستتبهم النبي عليه الصلاة والسلام. ويحتجون بقوله تعالى: ( يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ) . ويحتجون أيضا بقوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) . ويحتجون أيضا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقولوا محمد يقتل أصحابه) . ويحتجون أيضا بمقولة : " سمِّن كلبك يأكلك " . ثم إني سمعت من أحد المشايخ أنه قال: إن شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله قال: بأن مَن قال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُقم الحد أو يستتب من أظهر كفره فإنه كافر مرتد ، ولا يعذر بالجهل ؛ لأن هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة . ومثله قال ابن حزم رحمه الله. وقالوا: إن هذا غمز ولمز بالنبي عليه الصلاة والسلام. فما هو تعليقكم ؟ وخصوصا أن كثيرا من الإخوة يقع في هذا الأمر، ويلبس عليه الشيطان، منهم شخص أحبه في ا لله، وعمره فوق الأربعين سنة، ويخاف الله ، وربى أولاده على ذلك ، وكان سببا في إنقاذ حياتي ذات مرة ، وعنده مكتبه لعلماء أهل السنة رحمهم الله . كيف أتصرف معه ؟ هل أكفره ؟ ماذا أقول له ؟ وإذا كان مرتدا ماذا يفعل بعقد النكاح ؟ لقد مر على قوله نحو شهر ونصف ، ولم أره منذ أن قال ذلك . أرجو الرد على جميع الشبهات .

ملخص الجواب:

والخلاصة : أنه لا يصح استدلال صديقك بعفو النبي صلى الله عليه وسلم عن المنافقين في حياته لأسباب خمسة . ولكن في الوقت نفسه من استدل بذلك لا يكفر، ولا يحكم بردته، ولم نجد ابن تيمية ولا ابن حزم يقولان بكفره ؛ لأن المسلم حين يخوض في هذا ، لا يعني أنه يرضى بالتنقص من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقبل بردة المرتدين، وإنما يبحث في حكم قتله ، وطريقة عقابه، ولهذا لا يكفر. والله أعلم.

الجواب

الحمد لله.


نوصيك ابتداء بعدم اقتحام أبواب التكفير – مهما كانت مقولة صاحبك - ، فذلك مزلق خطير، يستزلك إليه الشيطان ليفرق بينك وبين الناس، وليقطع الصلة مع صديقك، والأمر لا يبلغ – في ميزانه الفقهي – هذا القدر من الشقاق والنزاع؛ لأنه لا يمس معلوما من الدين بالضرورة والحمد لله ، إنما المعلوم بالضرورة هو مقام النبي صلى الله عليه وسلم السامي ، وحبه الواجب ، واتباعه المفروض .
وما سوى ذلك من طريقة التعاطي مع مبغضيه أو تحديد عقابهم ، فليس من المعلوم من الدين بالضرورة، وإن كان مقررا في كتب الفقهاء.
نعم، النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل أكثر المنافقين الذين عاشوا معه في مدينته المباركة المشرفة، ولكن أجاب عن ذلك علماء الإسلام، وقالوا إنه لا يصح دليلا على عدم قتل المرتد، وذلك من أوجه عديدة :
أولا:
أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة عقوبة الردة على من يظهر الكفر من المنافقين ، كان سياسة شرعية لدرء فتنة أعظم ، ومفسدة أكبر من مفسدة هذا المظهر للكفر، وهي اتهام الإسلام عامة ، بل واتهام نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام بأنه يقتل أصحابه ، ويسفك دماء مَن حوله مِن سكان المدينة ، فيطير بذلك المشركون والمنافقون كل مطار، ويعملون آلتهم الإعلامية المفسدة ، فيشتبه الأمر على كل مَن لم يعرف حقيقة الأمر، وهم الأكثر عادة؛ فالناس تسمع عن سفك الدماء أكثر من سمعها عن سبب ذلك السفك ، فالقتل إذا وقع يصبح حقيقة ، وأما عذر القتل فهو ظن قد يُنقل وقد يَخفى ، والإسلام يومئذ طري عوده ، ودولته فتية ناشئة ، فكانت السياسة الشرعية منه عليه الصلاة والسلام تقتضي تأجيل قتل من يستحق القتل، لتحقيق مصلحة أعظم، ودرء فتنة أكبر.
ثانيا:
أن ترك العقاب كان في الأمر الأول ، زمن ضعف الإسلام وبداية نشأة الدولة ، وتربص أعدائها في الداخل والخارج بها ، ثم نسخ الحكم الشرعي وتبدل ، حين استتب الأمر، واستقرت الدولة، وجاء نصر الله والفتح ، تغير الحال، وصار العقاب حتما لازما لكل من يجهر بكفره وردته.
ثالثا:
كثير من الحوادث التي غض النبي صلى الله عليه وسلم الطرف عنها، ولم يستتبعها بعقاب خاص لأصحابها، إنما وقعت في السر والخفاء، ولم يجهر بها أصاحبها من المنافقين، ولم يظهروها على ملأ المسلمين. ومعلوم أن الإسلام لا يؤاخذ الناس بسرائرهم ، وإنما يحكم بالظاهر، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ) رواه البخاري (6967) ، ومسلم (1713) .
رابعا:
ثم إن الأحاديث الصحيحة تدل على وقوع العقوبة في كثير من الأحيان ، على مَن يصرح بعدائه مِن المنافقين ، فلا تسلم أصل الدعوى على إطلاقها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يترك عقاب المصرحين بكفرهم مطلقا، بل أقام على بعضهم ، وترك آخرين.
خامسا:
عفو النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان إسقاطا لحقه الخاص ، فقد كان يحب العفو والصفح والمغفرة ، ويشفق على المنافقين ، ويهم بالاستغفار لهم والصلاة عليهم رحمة بهم ، وينهى أصحابه عن التعرض لهم أو ليهود المدينة يتألفهم ، رجاء هدايتهم ونجاتهم .
أما المسلمون بعده عليه الصلاة والسلام فلا يملكون إسقاط حق نبوته بعد وفاته عليه الصلاة والسلام ، وليس لهم أن يتعاملوا إلا بأحكام الظاهر، وينفذوا عقوبة خرق ميثاق الإسلام والطعن في مقدساته.
ننقل هنا كلاما طويلا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، فقد وجدناه أفاض وأطال الجواب عن هذا السؤال ، في مجموعة من كتبه ، ننتقي منها ما يناسب هذا المختصر.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"ومن هذا الباب: أن الرجل الذي قاله له لما قسم غنائم حنين: (إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله فقال عمر: دعني يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقتل هذا المنافق. فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي) رواه مسلم
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع عمر من قتله ؛ إلا لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ، ولم يمنعه لكونه في نفسه معصوما، كما قال في حديث حاطب بن أبي بلتعة ، فبين صلى الله عليه وسلم أنه [ أي : حاطب ] باق على إيمانه ، وأنه صدر منه ما يغفر له به الذنوب ، فعلم أن دمه معصوم ، وهنا عَلَّل بمفسدة زالت.
فعُلم أن قتل مثل هذا القائل ، إذا أُمِنت هذه المفسدة : جائز.
وكذلك لما أمنت هذه المفسدة أنزل الله قوله: (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم) ، بعد أن كان قد قال له: ( وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ) قال زيد بن أسلم: "قوله: (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ) نسخت ما كان قبلها ".
ومما يشبه هذا : أن عبد الله بن أبيّ لما قال: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلّ) ، وقال: (لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) ، استأمر عمر في قتله ، فقال: ( إذن ترعد له أنوف كثيرة بالمدينة . وقال : لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه). والقصة مشهورة، وهي في الصحيحين.
فعلم أن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الكلام جاز قتله كذلك مع القدرة ، وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتله ، لما خيف في قتله من نفور الناس عن الإسلام ، لما كان ضعيفا.
ومن هذا الباب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي. قال له سعد بن معاذ: أنا أعذرك إن كان من الأوس ضربت عنقه)
فلما لم ينكر ذلك عليه ، دل على أن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم وتنقصه : يجوز ضرب عنقه " انتهى من "الصارم المسلول" (ص178-179) ,

ويقول أيضا رحمه الله:
" فإن قيل:
قد قال الله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى) إلى قوله: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
فأخبر أنهم يحيون الرسول تحية منكرة ، وأخبر أن العذاب في الآخرة يكفيهم عليها، فعلم أن تعذيبهم في الدنيا ليس بواجب.
وعن أنس بن مالك قال: (مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السام عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: يقول: السام عليك. قالوا: يا رسول الله ألا نقتله؟ قال: لا، إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم) رواه البخاري.
ومثل هذا الدعاء أذى للنبي صلى الله عليه وسلم وسب له، ولو قاله المسلم لصار به مرتدا؛ لأنه دعاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته بأنه يموت، وهذا فعل كافر، ومع هذا فلم يقتلهم، بل نهى عن قتل اليهودي الذي قال ذلك لما استأمره أصحابه في قتله.
قلنا:
عن هذا أجوبة .... [فذكر منها]:
الجواب الثالث: أن قول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له: (ألا نقتله) لما أخبرهم أنه قال: (السام عليكم) : دليل على أنه كان مستقرا عندهم قتل الساب من اليهود؛ لمَّا رأوه قتل ابنَ الأشرف والمرأة وغيرهما، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله، وأخبرهم أن مثل هذا الكلام حقه أن يقابل بمثله ؛ لأنه ليس إظهارا للسب والشتم من جنس ما فعلت تلك اليهودية وابن الأشرف وغيرهما، وإنما هو إسرار به كإسرار المنافقين بالنفاق .
الجواب الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يعفو عمن شتمه وسبه في حياته ، وليس للأمة أن يعفوا عن ذلك.
يوضح ذلك : أنه لا خلاف أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه بعد موته من المسلمين كان كافرا حلال الدم، وكذلك من سب نبيا من الأنبياء، ومع هذا فقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا) وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) فكان بنو إسرائيل يؤذون موسى في حياته بما لو قاله اليوم أحد من المسلمين وجب قتله ، ولم يقتلهم موسى عليه السلام، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يقتدى به في ذلك، فربما سمع أذاه أو بلغه فلا يعاقب المؤذي على ذلك، قال الله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) الآية. وقال تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ)
وفي رواية لمسلم: فقال: (يا رسول الله اتق الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟ قال: ثم ولى الرجل. فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه. فقال: لا، لعله أن يكون يصلي)
فهذا الرجل قد نص القرآن أنه من المنافقين بقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ) أي يعيبك ويطعن عليك، نسب للنبي صلى الله عليه وسلم أنه جار ولم يتق الله.
ومثل هذا الكلام لا ريب أنه يوجب القتل لو قاله اليوم أحد، وإنما لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان يظهر الإسلام ، وهو الصلاة التي يقاتل الناس حتى يفعلوها، وإنما كان نفاقه بما يخص النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى ، وكان له أن يعفو عنه، وكان يعفو عنهم تأليفا للقلوب، لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه.
ومن ذلك قول الأنصاري - الذي حاكم الزبير في شراج الحرة لما قال له صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير ثم سرح الماء إلى جارك - فقال: أن كان ابن عمتك؟
فهذا الباب كله ؛ مما يوجب القتل ، ويكون به الرجل كافرا منافقا حلال الدم : كان النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء عليهم السلام يعفون ويصفحون عمن قاله ، امتثالا لقوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) وكقوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقوله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) وكقوله تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) وكقوله تعالى: (وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُم) وذلك لأن درجة الحلم والصبر على الأذى والعفو عن الظلم أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة ، يبلغ الرجل بها ما لا يبلغه بالصيام والقيام ؛ قال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وقال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه)
فجعل الله لهم أن يعفوا عن مثل هذا النوع، ووسع عليهم ذلك؛ لما فيه من حق الآدمي، تغليبا لحق الآدمي على حق الله، كما جعل لمستحق القَوَد [أي : القصاص] ، وحد القذف : أن يعفو عن القاتل والقاذف، وهم أولى؛ لما في جواز عفو الأنبياء ونحوهم من المصالح العظيمة المتعلقة بالنبي وبالأمة وبالدين.
وهذا معنى قول عائشة رضي الله عنها: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادما له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا انتقم لنفسه قط)
وفي لفظ: (ما نيل منه شيء فانتقمه من صاحبه، إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبة شيء حتى ينتقم لله) متفق عليه.
ومعلوم أن النيل منه أعظم من انتهاك المحارم، لكن لما دخل فيها حقه ، كان الأمر إليه في العفو أو الانتقام، فكان يختار العفو، وربما أمر بالقتل إذا رأى المصلحة في ذلك، بخلاف ما لا حق له فيه ، من زنا أو سرقة أو ظلم لغيره، فإنه يجب عليه القيام به.
وقد كان أصحابه إذا رأوا من يؤذيه أرادوا قتله لعلمهم بأنه يستحق القتل، فيعفو هو عنه صلى الله عليه وسلم، ويبين لهم أن عفوه أصلح، مع إقراره لهم على جواز قتله، ولو قتله قاتل قبل عفو النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يعرض له النبي صلى الله عليه وسلم، لعلمه بأنه قد انتصر لله ورسوله، بل يحمده على ذلك ويثني عليه، كما قتل عمر رضي الله عنه الرجل الذي لم يرض بحكمه، وكما قتل رجل بنت مروان، وآخر اليهودية السابة.
فإذا تعذر عفوه بموته صلى الله عليه وسلم بقي حقا محضا لله ولرسوله وللمؤمنين، لم يعف عنه مستحقه، فتجب إقامته.
ومما يوضح ذلك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعفو عن المنافقين الذين لا يشك في نفاقهم، حتى قال: (لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له ، لزدت) حتى نهاه الله عن الصلاة عليهم، والاستغفار لهم، وأمره بالإغلاظ عليهم .
فكثير مما كان يحتمله من المنافقين ، من الكلام ، وما يعاملهم من الصفح والعفو والاستغفار : كان قبل نزول براءة ، لما قيل له : (وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ) ؛ لاحتياجه إذ ذاك إلى استعطافهم ، وخشية نفور العرب عنه إذا قتل أحدا منهم ، فإن الناس ينظرون إلى ظاهر الأمر، فيرون واحدا من أصحابه قد قُتِل، فيظن الظان أنه يقتل بعض أصحابه على غرض ، أو حقد ، أو نحو ذلك ، فينفر الناس عن الدخول في الإسلام ، وإذا كان من شريعته أن يتألف الناس على الإسلام بالأموال العظيمة ليقوم دين الله وتعلو كلمته ، فلأن يتألفهم بالعفو أولى وأحرى.
فلما أنزل الله براءة ونهاه عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم، وأمره أن يجاهد الكفار والمنافقين ويغلظ عليهم ؛ نسخ جميع ما كان المنافقون يعامَلون به من العفو، كما نسخ ما كان الكفار يعامَلون به من الكف عمن سالم، ولم يبق إلا إقامة الحدود، وإعلاء كلمة الله في حق الإنسان.
فإن قيل:
فقد قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَة) إلى قوله: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ)
فهؤلاء قد سبوه صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام ، ولووا ألسنتهم به، واستهزءوا به، وطعنوا في الدين، ومع ذلك فلم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم؟!
قلنا: عن ذلك أجوبة:
أحدها:
أن ذلك كان في حال ضعف الإسلام، في الحال التي أخبر الله عن رسوله والمؤمنين أنهم يسمعون من الذين أوتوا الكتاب والمشركين أذى كثيرا، وأمرهم بالصبر والتقوى.
ثم إن ذلك نسخ عند القوة بالأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، والصاغر لا يفعل شيئا من الأذى في الوجه، ومن فعله فليس بصاغر.
ثم إن من الناس من يسمي ذلك نسخا لتغير الحكم ، ومنهم من لا يسميه نسخا؛ لأن الله تعالى أمرهم بالعفو والصفح إلى أن يأتي الله بأمره ، وقد أتى الله بأمره من عز الإسلام وإظهاره، والأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون... والخلاف لفظي.
ومن الناس من يقول: الأمر بالصفح باق عند الحاجة إليه بضعف المسلم عن القتال ، بأن يكون في وقت أو مكان لا يتمكن منه ، وذلك لا يكون منسوخا، إذ المنسوخ ما ارتفع في جميع الأزمنة المستقبلة.
وبالجملة : فلا خلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفروضا عليه لما قوي ، أن يترك ما كان يعامل به أهل الكتاب والمشركين ومظهري النفاق من العفو والصفح ؛ إلى قتالهم وإقامة الحدود عليهم ، سُميَ نسخا أو لم يُسم.
الجواب الثاني:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان له أن يعفو عمن سبه ، وليس للأمة أن تعفو عمن سبه، كما قد كان يعفو عمن سبه من المسلمين، مع أنه لا خلاف بين المسلمين في وجوب قتل من سبه من المسلمين.
فإن قيل:
أهل الذمة قد أقررناهم على دينهم، ومِن دينهم استحلال سب النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قالوا ذلك ، لم يقولوا غير ما أقررناهم عليه ، وهذه نكتة المخالف.
قلنا:
ومِن دينهم استحلال قتال المسلمين ، وأخذ أموالهم ، ومحاربتهم بكل طريق، ومع هذا فليس لهم أن يفعلوا ذلك بعد العهد، ومتى فعلوه ، نقضوا العهد .
وذلك لأنا - وإن كنا نقرهم على أن يعتقدوا ما يعتقدونه ، ويخفوا ما يخفونه - فلم نقرهم على أن يظهروا ذلك، ويتكلموا به بين المسلمين، ونحن لا نقول بنقض عهد الساب حتى نسمعه يقول ذلك، أو يشهد به المسلمون، ومتى حصل ذلك كان قد أظهره وأعلنه" .
انتهى باختصار من "الصارم المسلول" (ص221-247) .
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم: (234071) .

الردة
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب