الحمد لله.
على
أن الراوي بكر بن خنيس ، الراجح في روايته الضعف كما ذهب إلى ذلك جمهور أهل العلم ،
قال الذهبي رحمه الله تعالى :
" بكر بن خنيس الكوفي ، زاهد ، قال الدارقطني : متروك . وقال النسائي وغيره : ضعيف
. وقال ابن معين مرة : لا بأس به إلا أنه يروي عن الضعفاء. وقد تكلم فيه ابن شيبة
وابن المديني " انتهى من " المغني في الضعفاء " (1 / 113) .
ولهذا خلص الذهبي في الحكم عليه ؛ إلى القول :
" بكر بن خنيس العابد ، وَاهٍ " انتهى من " الكاشف " (1 / 274) .
وقد اختار الشيخ الألباني
نفسه هذا الحكم فقال في " سلسلة الأحاديث الضعيفة " (13 / 728):
" بكر بن خنيس مختلف فيه ، فوثقه بعضهم وضعفه الجمهور ؛ كما ترى أقوالهم في " تهذيب
الحافظ "، وقال في " تقريبه ":
" صدوق له أغلاط ، أفرط فيه ابن حبان " .
والحق أنه كما قال الذهبي في "الكاشف":
واهٍ " انتهى من " سلسلة الأحاديث الضعيفة " (13 / 782) .
ولهذا ضعف الألباني رحمه الله تعالى عددا من أحاديث بكر بن خنيس في كتابه " سلسلة الأحاديث الضعيفة " .
والجملة الأخيرة من هذا
الأثر الضعيف ؛ وهي : ( وَإِنَّ سُوءَ الْخُلُقِ لَيُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا
يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ ) ، قد رويت بأسانيد أخرى ، لكنها كلها ضعيفة ، كما
لخّص ذلك الشيخ الألباني رحمه الله تعالى ؛ حيث قال :
" ( سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل ) .
ضعيف جداً .
رواه الدامغاني في "الأحاديث والحكايات" (1/ 110/ 1) عن محمد بن عرعرة بن البرند:
حدثنا سكين بن أبي سراج أبو عمرو الكلابي ، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر
مرفوعاً.
ورواه عبد بن حميد في " المنتخب من مسنده " (87/ 2) : حدثنا داود بن محبر: حدثنا
سكين به.
قلت: وسكين بن أبي سراج ؛ قال ابن حبان:
" يروي الموضوعات ". وقال البخاري: " منكر الحديث ".
وله طريق آخر؛ رواه العقيلي
في "الضعفاء" (436) ، والديلمي (2/ 207) من طريق أبي نعيم: حدثنا أبو داود: حدثنا
النضر بن معبد ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة يرفعه ، وقال:
" النضر بن معبد أبو قحذم ؛ لا يتابع عليه ، قال يحيى : ليس بشيء".
وقال النسائي:
" ليس بثقة" " انتهى من " سلسلة الأحاديث الضعيفة " (8 / 189 – 190) .
ولم يذكر الألباني رحمه الله في هذا الموضع رواية ابن أبي الدنيا التي حسنها .
فالحاصل ؛ أن جملة " سوء الخلق يفسد العمل " لا تصح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
ثانيا :
- إحباط العمل الصالح : هو أن يزول ثوابه وتذهب منفعته .
قال العراقي رحمه الله تعالى :
" معنى إحباط الطاعة محو أثرها المترتب عليها ، وهو الثواب " انتهى من " طرح
التثريب " (3 / 238 – 239) .
- أما فساد العمل ؛ فالمقصود
به في غالب استعمال أهل العلم ؛ هو أن يؤدي الشخص العبادة على وجه غير مشروع حيث
يبقى مطالبا بإعادتها إن كانت واجبة .
جاء في " الموسوعة الفقهية الكويتية " (32/ 117) :
" عرف جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة الفساد بأنه : مخالفة الفعل
الشرع بحيث لا تترتب عليه الآثار ، ولا يسقط القضاء في العبادات .
وعرف الحنفية الفاسد بأنه ما شرع بأصله دون وصفه " انتهى .
والفساد بهذا المفهوم لا علاقة لسوء الخلق به ؛ لأن حسن الخلق ليس شرطا لصحة العبادات .
وقد يستعمل الفساد كما في
الأثر الضعيف السابق ، ويقصد به إحباط العمل وذهاب نفعه .
قال المناوي رحمه الله تعالى :
" ( سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل) أي أنه يعود عليه بالإحباط ؛
كالمتصدق إذا أتبع صدقته بالمن والأذى " انتهى من " التيسير بشرح الجامع الصغير "
(2 / 61) .
فالفساد بهذا المفهوم هو نفسه إحباط العمل .
ثالثا :
سوء الخلق هو ذنب من الذنوب ؛ ومن أصول أهل السنة أنه لا يحبط العمل كله إلا الكفر
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" ولا تحبط الأعمال بغير الكفر ؛ لأن من مات على الإيمان فإنه لابد من أن يدخل
الجنة ويخرج من النار إن دخلها ، ولو حبط عمله كله لم يدخل الجنة قط ، ولأن الأعمال
إنما يحبطها ما ينافيها ، ولا ينافي الأعمال مطلقا إلا الكفر ، وهذا معروف من أصول
أهل السنة " انتهى من " الصارم المسلول " (2 / 114) .
وسوء الخلق وإن كان ليس
كالكفر في إحباط الأعمال الصالحة ، إلا أن له تأثيرًا عليها ؛ ومن صور ذلك :
الصورة الأولى : سوء الخلق يؤثر على العمل الصالح الذي يقترن به .
فالمتصدق إذا تصدق على وجه الكبر والفخر أو يمنّ بصدقته ويؤذي بها الفقير ، فإنه
بهذا الخلق السيئ يذهب أجر صدقته .
قال الله تعالى :
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ
وَالْأَذَى ) البقرة /264 .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
" فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى ، فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة
المن والأذى " انتهى من " تفسير ابن كثير " (1 / 694) .
ومثل الصائم الذي يقرن صومه بأخلاق سيئة ، فإنه يفوت على نفسه الأجر.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ
بِهِ ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ) رواه
البخاري (1903) ، وابن ماجه (1689) بلفظ : ( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ ،
وَالْجَهْلَ ، وَالْعَمَلَ بِهِ ، فَلَا حَاجَةَ لِلَّهِ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ
وَشَرَابَهُ ) ..
قال ابن حجر رحمه الله تعالى :
" والمراد بقول الزور الكذب ، والجهل السفه ، والعمل به أي بمقتضاه ...
قال ابن المنير في الحاشية : بل هو كناية عن عدم القبول ، كما يقول المغضب لمن رد
عليه شيئا طلبه منه فلم يقم به : لا حاجة لي بكذا ، فالمراد رد الصوم المتلبس
بالزور وقبول الصوم السالم منه ...
وقال ابن العربي : مقتضى هذا الحديث أن من فعل ما ذكر : لا يثاب على صيامه ، ومعناه
أن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور وما ذكر معه " انتهى من " فتح
الباري " (4 / 117).
وهكذا القول في جميع الطاعات
إذا اقترن بها سوء الخلق ، لأن سوء الخلق مناقض لتقوى الله تعالى ، والتقوى هي
المطلب الأول في الطاعات .
قال الله تعالى – عن الأضاحي و الهدي - :
( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى
مِنْكُمْ ) الحج /37 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى :
" ( وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ) ففي هذا حث وترغيب على الإخلاص في
النحر ، وأن يكون القصد وجه الله وحده ، لا فخرا ولا رياء ، ولا سمعة ، ولا مجرد
عادة ، وهكذا سائر العبادات ، إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله ، كانت كالقشور
الذي لا لب فيه ، والجسد الذي لا روح فيه " انتهى من " تفسير السعدي " (ص 539) .
الصورة الثانية :
من المعلوم أن شطرا كبيرا من سوء الخلق متعلق بمعاملة الناس ، كالغيبة والنميمة
والبهتان والاحتقار وجميع أنواع الظلم .
ومظالم العباد سيكون فيها القصاص يوم القيامة .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
قَالَ : ( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ ) ، قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا
دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، فَقَالَ : ( إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي ،
يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ ، وَصِيَامٍ ، وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ
شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ،
وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ،
فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ
خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ) رواه مسلم (2581)
.
فهذه الأخلاق السيئة أذهبت طاعات هذا الإنسان عند حاجته إليها .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تقرير هذا الأصل :
" الذي ينفي من الإحباط على أصول أهل السنة : هو حبوط جميع الأعمال ؛ فإنه لا يحبط
جميعها إلا بالكفر .
وأما الفسق : فلا يحبط جميعها؛ سواء فسر بالكبيرة، أو برجحان السيئات؛ لأنه لا بد
أن يثاب على إيمانه فلم يحبط.
وأما حبوط بعضها وبطلانه ، إما بما يفسده بعد فراغه ، وإما لسيئات يقوم عقابها
بثوابه :
فهذا حق ، دل عليه الكتاب والسنة . كقوله : (لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ
وَالْأَذَى) البقرة/264 ؛ فأخبر أن المن والأذى يبطل الصدقة، كما أن الرياء المقترن
بها يبطلها .
وإن كان كل منهما : لا يبطل الإيمان؛ بل يبطله ورود الكفر عليه ، أو اقتران النفاق
به.
وقوله في الحديث الصحيح: إن
الذي تفوته صلاة العصر فقط حبط عمله وقول.. : الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار
الحطب .
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من كانت عنده لأخيه مظلمة في عرض أو مال
فليأته فليستحل منه ، قبل أن يأتي يوم ليس فيه درهم ولا دينار، وإنما فيه الحسنات
والسيئات .
وقوله: ما تعدون المفلس فيكم ؟ قالوا: المفلس من ليس له درهم ولا دينار، قال: ليس
ذلك بالمفلس ، وإنما المفلس الذي يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ، فيأتي وقد
ضرب هذا وشتم هذا وأخذ مال هذا . فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ؛ فإذا لم
يبق له حسنة : أخذ من سيئاتهم ، فطرحت عليه ثم طرح في النار " انتهى من "المستدرك
على مجموع الفتاوى" (1/127) .
وينظر جواب السؤال رقم : (81874).
فالحاصل ، أن الأثر ( سوء
الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل ) لا يصح من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ،
لكن سوء الخلق قد يفسد ويحبط ثواب الأعمال الصالحة ؛ كما لو اقترن بها ، أو كان على
شكل مظالم تجاه الخلق تسبب له خفة كفة حسناته وثقل كفة سيئاته .
والله أعلم .