الحمد لله.
المسخ هو تشويه الخلق وتحويله من صورة إلى صورة.
كذا قال ابن فارس في "مجمل اللغة" (831).
وقد وقع ذلك عقوبة من رب العالمين لقوم من بني إسرائيل تحايلوا على الشرع ، حرم الله عليهم الصيد يوم السبت فصنعوا حيلة للوصول إلى ما حرم الله ، فمسخهم الله قردة خاسئين، كما في قوله تعالى في سورة الأعراف : ( وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) الأعراف164-166 .
والمسخ عقوبة باقية سوف تحدث لأقوام من هذه الأمة المحمدية ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ ، يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ ، يَأْتِيهِمْ - يَعْنِي الفَقِيرَ - لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا ، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ ، وَيَضَعُ العَلَمَ ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ " . أخرجه البخاري في صحيحه (5590) معلقا بصيغة الجزم ، ورواه موصولا أبو داود في سننه (4039) ، وقال الحافظ ابن حجر في "تغليق التعليق" (5/22) :" وَهَذَا حَدِيث صَحِيح لَا عِلّة لَهُ وَلَا مطْعن لَهُ ". انتهى .
وقد اختلف أهل العلم في كون هؤلاء الذين مسخهم الله قردة من بني إسرائيل وغيرهم : هل يهلكهم الله ، ولا يكون لهم نسل ، أم أنهم يكون لهم نسل وعقب ؟
على قولين لأهل العلم ، حيث قال القرطبي في "تفسيره" (1/440) :" وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَمْسُوخِ هَلْ يَنْسِلُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: قَالَ الزَّجَّاجُ: قَالَ قَوْمٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقِرَدَةُ مِنْهُمْ. وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْمَمْسُوخُ لَا يَنْسِلُ ، وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَغَيْرُهُمَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالَّذِينَ مسخهم الله قد هلكوا وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ نَسْلٌ ". انتهى .
والقول بأنه ينسل قول ضعيف شاذ كما ذكر غير واحد من أهل العلم ، وقد ورد في الحديث الصحيح ما يدل على هلاك من مسخهم الله ، وأنه ليس لهم نسل ولا عقب .
وهو حديث أخرجه مسلم في صحيحه (2663) عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه ، أن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَتْ عِنْدَهُ الْقِرَدَةُ - قَالَ مِسْعَرٌ: وَأُرَاهُ قَالَ: وَالْخَنَازِيرُ مِنْ مَسْخٍ - ؛ فَقَالَ:
( إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلًا وَلَا عَقِبًا، وَقَدْ كَانَتِ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ ) .
وقد علق ابن قتيبة رحمه الله القول في ذلك على صحة الحديث السابق ، فقال في "تأويل مختلف الحديث" (373) :" وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهَا الْمَمْسُوخُ بِأَعْيَانِهَا ، تَوَالَدَتْ . وَاسْتَدْلَلْتُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِير ، فَدُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي القردة و الْخَنَازِير يَدُلُّ عَلَى الْمَعْرِفَةِ ، وَعَلَى أَنَّهَا هِيَ القردة الَّتِي نعاين .
وَلَوْ كَانَ أَرَادَ شَيْئًا انْقَرَضَ وَمَضَى ، لَقَالَ: ( وَجَعَلَ مِنْهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ) .
إِلَّا أَنْ يَصِحَّ حَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ فِي الْمَمْسُوخِ ، فَيَكُونُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". انتهى.
علق ابن هبيرة في "الإفصاح" (2/123) على كلام ابن قتيبة فقال :" وقد صح حديث أم حبيبة [ يعني : حديث ابن مسعود السابق ، ففيه قصة لأم حبيبة ]؛ فلا يلتفت إلى ظن ابن قتيبة ".انتهى.
بل اعتبر الحافظ ابن حجر أن القول بأن لهم نسلا قولا شاذا ، فقال :" قَالَ ابن التِّينِ : لَعَلَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا مِنْ نَسْلِ الَّذِينَ مُسِخُوا ، فَبَقِيَ فِيهِمْ ذَلِكَ الْحُكْمُ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ الْمَمْسُوخَ لَا يَنْسِلُ !
قُلْتُ : وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْمَمْسُوخَ لَا نَسْلَ لَهُ .
وَعِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ ابن مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا : ( إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا فَيَجْعَلُ لَهُمْ نَسْلًا ) .
وَقَدْ ذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ وَأَبُو بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ إِلَى أَنَّ الْمَوْجُودَ مِنَ الْقِرَدَةِ مِنْ نَسْلِ الْمَمْسُوخِ .
وَهُوَ مَذْهَب شَاذ ". الفتح (7/160).
فتبين مما سبق أن من عاقبهم الله بالمسخ ليس لهم نسل ، بل يهلكهم الله تعالى .
وأما سؤال السائل الكريم : هل ثبت أنهم يمكثون ثلاثة أيام قبل موتهم وهلاكهم؟
فجواب ذلك : أنه لم يصح في تحديد مدة بقائهم بعد المسخ ، وقبل الإهلاك : شيء . ولم يرد في ذلك حديث مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم .
إنما ورد أثر موقوف عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه من طريقين ، بلفظين مختلفين :
الأول : أخرجه الطبري في "تهذيب الآثار" (313) من طريق بشر بن عمارة عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس أنه قال :" لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل ".
ثم ضعفه الطبري فقال :" أما الخبر عن ابن عباس الذي روي بما ذكرت من أن المسخ لا يعيش أكثر من ثلاث : فخبر في سنده نظر ، لعلتين :
إحداهما : أن الضحاك لم يسمعه من ابن عباس .
والثانية : أن بشر بن عمارة ليس ممن يعتمد على روايته ". تهذيب الآثار (1/ 195)
واللفظ الثاني : أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (670) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِذَا كَانَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ فَجُعِلُوا قِرَدَةً فَوَاقًا ، ثُمَّ هَلَكُوا ؛ مَا كَانَ لِلْمَسْخِ نَسْلٌ . انتهى
والفواق : هُوَ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ .
وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا بَيْنَ الْغَدَاةِ إِلَى الْعَشَاءِ ; لِأَنَّ النَّاقَةَ تُحْلَبُ فِيهِمَا .
وإسناد هذا الأثر تالف ؛ فيه عبد الله بن محمد بن ربيعة ضعيف جدا ، يروي الموضوعات . قال ابن حبان في "المجروحين" (2/39) :" كان تقلب له الاخبار ، فيجيب فيها. كان آفته ابنه ، لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل الاعتبار ، ولعله أقلب له على مالك أكثر من مائة وخمسين حديثا ، فحدث بها كلها ". انتهى .
وقال الحاكم :" يروي عَنْ مالك الموضوعات ". كذا في "تاريخ الإسلام" للذهبي (5/102) .
وقال الذهبي :" أحد الضعفاء ؛ أتى عن مالك بمصائب ". ميزان الاعتدال (2/488) .
والحاصل :
أن من مسخهم الله في هذه الدنيا : لا يتناسلون ، بل يهلكهم الله تعالى .
إلا أنه لم يصح في تحديد مدة بقائهم بعد المسخ شيء .
والله أعلم .