الحمد لله.
أولا :
أهل السنة والجماعة متفقون على ثبوت واقعة السحر التي جرت للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقد طعن فيها أهل البدع كالمعتزلة قديما ، وبعض من تأثر بهم حديثا ، وقد جاء في ثبوتها عدة أحاديث .
وأشهرها ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: ( سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عِنْدِي، لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ:" يَا عَائِشَةُ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِي رَجُلاَنِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ " فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَفَلاَ اسْتَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: قَدْ عَافَانِي اللَّهُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا . فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ ) . رواه البخاري (5763) ، ومسلم (2189).
وقد اتفق أهل السنة على أن السحر الذي وقع للنبي صلى الله عليه وسلم لا يطعن في مقام النبوة ، وأنه صلى الله عليه وسلم معصوم من نسبة شيء إلى الدين وليس منه ، فلا يؤثر في ذلك سحر أو غيره .
قال الإمام المازري في "المعلم بفوائد مسلم" (3/158) :" أهل السنة وجمهور العلماء من الأمة على إثبات السّحر ، وأن له حقيقةً كحقائق غيره من الأشياء الثابتة ؛ خلافا لمن أنكره ونَفَى حقيقته ، وأضاف ما يتّفق منه إلى خَيَالاتٍ باطلةٍ لا حقائق لها، وقد ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز وذكر أنّه مما يتَعَلَّم، وذكر ما يشير إلى أنّه مما يكفَّر به وأنّه يفَرَّق به بين المرء وزَوجِه ، وهذا كلُّه مما لا يمكن أن يكون فيما لا حقيقة له ....
وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث .. ، وَزَعَموا أنّه يحطّ مَنصِب النُّبوة ويشكّك فيها ، وَكلُّ مَا أدَّى إلى ذلك فهو بَاطل .
وزَعَموا أن تجويز هذا يعدم الثقّة بما شرعوه من الشرائع ، ولعله يتخيل إليه جبريل -عليه السلام- ولَيس ثمّ ما يراه ، أو أنّه أوحى إليه وَمَا أوحِيَ إلَيه .
وهذا الذي قالوه باطل ؛ وذلك أنّ الدّليل قد قام على صدقه فيما يبلّغه عَنِ الله سبحانه ، وعلى عصمته فيه ، والمعجزة شاهدة بصدقه ، وتجويزُ ما قام الدّليل على خلافه باطل .
ومَا يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث بِسَبَبِهَا ، ولا كان رسولا مفضّلا من أجلِهَا : هو في كثير منه عرضة لما يعتِرض البشَر ؛ فَغير بعيد أن يخيّل إليه في أمور الدّنيا ما لا حقيقة له .
وقد قال بعض النّاس : إنَّما المراد بالحديث أنّه كان يخيّل إليه أنه وطِئ زوجاتِهِ وليس بواطئ، وقد يَتَخَيَّل في المنام للإنسان مثل هذا المعنى ، ولا حقيقة له . فلا يبعد أن يكون - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَيَّله في اليقظة ، وإن لم يكن حقيقةً .
وقال بعض أصحابنا يمكن أن يكون يُخيَّل إليه الشيء أنّه فعله وما فعله ، ولكنه لا يعتقد ما تخيّله أنّه صحِيح ، فتكون اعتقاداته كلّها على السَّداد ، فلا يبقى لاعتراض الملحد طريق". انتهى.
وقال الخطابي في "أعلام الحديث" (2/1504) : " فأما ما يتعلق من أمره صلى الله عليه وسلم بالنبوة، فقد عصمه الله في ذلك، وحرس وحيه أن يلحقه الفساد والتبديل، وإنما كان يخيل إليه ، من أنه يفعل الشيء ولا يفعله ، في أمر النساء خصوصا، وفي إتيان أهله ، قَصْرَةً، إذ كان قد أخذ عنهن بالسحر، دون ما سواه من أمر الدين والنبوة .
وهذا من جملة ما تضمنه قوله عز وجل: فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه الآية. فلا ضرر إذن مما لحقه من السحر على نبوته، ولا نقص فيما أصابه منه على دينه وشريعته، والحمد الله على ذلك ". انتهى .
وقال القاضي عياض في "الشفا" (2/160) :" وأما ما ورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من تبليغه أو شريعته، أو يقدح في صدقه لقيام الدليل، والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طروه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها، ولا فضّل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها مالا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان". انتهى .
وقال ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (3/208) :" وَكَانَ غَايَةَ هَذَا السِّحْرِ إنَّمَا هُوَ فِي جَسَدِهِ وَظَاهِرِ جَوَارِحِهِ ، لَا عَلَى عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ .
وَمَا وَرَدَ مِنْ التَّخَيُّلِ : فَهُوَ بِالْبَصَرِ ، لَا تَخَيُّلٌ يَطْرُقُ إلَى الْعَقْلِ ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ مَا يَمِيلُ إلَيْهِ مِنْ إتْيَانِهِ النِّسَاءَ، بَلْ يَعْلَمُ أَنَّهُ خَيَالٌ. وَقَدْ يَحْدُثُ مِثْلُ هَذَا عَنْ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ". انتهى.
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم (68814) .
ثانيا :
أما ما جاء في سؤال الأخ الكريم في كيفية الجمع بين كونه صلى الله عليه وسلم قد سُحر مع جاء في النصوص من حراسة الله للمسلم بمحافظته على الأذكار، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الأمة ملازمة لذكر الله تعالى، فإن أهل العلم قد ذكروا عدة أراء للجمع بينهما ، منها ما يلي :
ا- أن السحر ليس نوعا واحدا ، وليس كله من ملامسة الشياطين ، بل منه سحر بالأدوية ونحوها ، كما قال ابن قدامة في "المقنع" (ص450) :" والساحر الذي يركب المكنسة وتسير به في الهواء ، ونحوه يُكَفَّرُ ويُقْتَلُ .
فأما الذي يسحر بالأدوية والتدخين وسقي شيء يضر : فلا يُكَفَّرُ ولا يُقتل ، ولكن يعزر ويقتص منه إِن فعل ما يوجب القصاص .
فأما الذي يعزم على الجن، ويزعم أنه يجمعها فتطيعه : فلا يكفر ولا يقتل، وذكره أبو الخطاب في السحرة الذين يقتلون ". انتهى .
وقد قيل : إن السحر الذي أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا النوع ، وممن قال ذلك ابن القصار ، نقله عنه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/227) ؛ قال :" وَاسْتَدَلَّ بن الْقَصَّارِ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ كَانَ مِنْ جنس الْمَرَض بقوله فِي آخر الحَدِيث " أما أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ " .
وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ نَظَرٌ ، لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْمُدَّعَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ : ( فَكَانَ يَدُورُ وَلَا يَدْرِي مَا وَجَعُهُ ) ". انتهى .
وكذلك قال المعلمي اليماني في "الأنوار الكاشفة" (ص265) فإن قيل: قد أطلق على تلك الحالة أنه سحر ، ففي الحديث عن عائشة سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجل ... والسحر من الشياطين، وقد قال الله تعالى للشيطان: ( إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان)
قلت: أما الذى أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الملك فإنما سماها طبًا ، كما مر في الحديث، وقد أنشد ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة :
فإن كنت مطبوبًا فلا زلت هكذا ... وإن كنت مسحورًا فلا بُرْأَ للسحر
وأقل ما يدل عليه هذا أن الطب : أخص من السحر، وأنّ من الأنواع التي يصاب بها الإنسان ويطلق عليها (سحر) ، ما يقال له: (طب). وما لا يقال: (طب) .
وعلى كل حال فالذي ذكر في الحديث : ليس من نوع ما زعمه المشركون ، ولا هو من ملابسة الشيطان، وإنما هو أثر نفس الساحر ، وفعله، وقد قدمت أن وقوع أثر ذلك نادر، فلا غرابة في خفاء تفسيره . وهذا يغني عما تقدم ". انتهى
2- أن ذلك كان من قبيل الكيد من الشيطان للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يطعن ذلك في حفظ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد نقل هذا القول الحافظ ابن حجر عن المهلب فقال :" وَقَالَ الْمُهَلَّبُ صَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّيَاطِينِ ، لَا يَمْنَعُ إِرَادَتَهُمْ كَيَدَهُ . فَقَدْ مَضَى فِي الصَّحِيحِ : أَنَّ شَيْطَانًا أَرَادَ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ ، فَأَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ .
فَكَذَلِكَ السِّحْرُ : مَا نَالَهُ مِنْ ضَرَرِهِ مَا يُدْخِلُ نَقْصًا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يَنَالُهُ مِنْ ضَرَرِ سَائِرِ الْأَمْرَاضِ ، مِنْ ضَعْفٍ عَنِ الْكَلَامِ ، أَوْ عَجْزٍ عَنْ بَعْضِ الْفِعْلِ ، أَوْ حُدُوثِ تَخَيُّلٍ لَا يَسْتَمِرُّ ، بَلْ يَزُولُ ، وَيُبْطِلُ اللَّهُ كَيْدَ الشَّيَاطِينِ ". انتهى من الفتح (10/227)
3- أن حدوث ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم كان لبيان أنه بشر يجري عليه ما يجري عليهم من البلاء ، وأن السحر حق يؤثر بإذن الله ، وأنه إذا وقع للنبي صلى الله عليه وسلم جاز وقوعه لغيره . وممن قال ذلك الطيبي في "شرح المشكاة" (12/3773)، حيث قال :" فإن قيل: كلام النبوة يمنع من حلول الاختلال بالسحر بجسم النبي صلى الله عليه وسلم؟
قلنا: لا يطول ذلك ، بل يزول سريعاً ، فكأنه ما حل، وفائدة الحلول تنبيه على أن هذا بشر مثلكم، وعلى أن السحر تأثيره حق إذا أثر في أكمل الإنسان ، فكيف بغيره؟". انتهى .
وهذا أيضا الذي رجحه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/235) قَالَ ابن الْقَيِّمِ : مِنْ أَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ وَأَقْوَى مَا يُوجَدُ مِنَ النُّشْرَةِ : مُقَاوَمَةُ السِّحْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَأْثِيرَاتِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ بِالْأَدْوِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ مِنَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالْقِرَاءَةِ ؛ فَالْقَلْبُ إِذَا كَانَ مُمْتَلِئًا مِنَ اللَّهِ مَعْمُورًا بِذِكْرِهِ ، وَلَهُ وِرْدٌ مِنَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوَجُّهِ ، لَا يُخِلُّ بِهِ : كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ إِصَابَةِ السِّحْرِ لَهُ .
قَالَ : وَسُلْطَانُ تَأْثِيرِ السِّحْرِ هُوَ فِي الْقُلُوبِ الضَّعِيفَةِ ، وَلِهَذَا : غَالِبُ مَا يُؤَثِّرُ فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْجُهَّالِ ، لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ الْخَبِيثَةَ إِنَّمَا تَنْشَطُ عَلَى أَرْوَاحٍ تَلْقَاهَا مُسْتَعِدَّةً لِمَا يُنَاسِبُهَا انْتَهَى مُلَخَّصًا .
وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ وَجَوَازُ السِّحْرِ عَلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مَعَ عَظِيمِ مَقَامِهِ وَصِدْقِ تَوَجُّهِهِ وَمُلَازَمَةِ وِرْدِهِ ؟
وَلَكِنْ ، يُمْكِنُ الِانْفِصَالُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ ، وَأَنَّ مَا وَقَعَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ تَجْوِيزِ ذَلِك ". انتهى .
ومما سبق يتبين أن الشيطان ربما حاول كيد النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن الله تعالى عصم نبيه صلى الله عليه وسلم وقلبه وعقله من الشيطان ، إلا أنه لا يمنع أن يأذن الله تعالى بوقوع بعض الأذى من الشيطان للنبي صلى الله عليه وسلم في جسده ، كسائر الأدواء . وذلك لحكم كثيرة منها : ابتلاء الله لنبيه صلى الله عليه وسلم .
ومعلوم أن أشد الناس بلاء الأنبياء ، ومنها التأكيد على حقيقة السحر وأنه إذا وقع للنبي صلى الله عليه وسلم جاز وقوعه لغيره .
والله أعلم .