هل قامت الحجة على شرار الخلق في آخر الزمان ، بمعنى آخر هل يعذرون ؛ لأنهم جاهلون ، أم لا يعذرون لقيام الحجة عليهم ؟
الحمد لله.
أولا:
الناس في آخر الزمان يختلف حالهم، فقد يوجد فيهم المعذور الذي لم تبلغه الحجة، كما يدل عليه حديث حذيفة الآتي، وقد يوجد فيهم غير المعذور الذي قامت عليه الحجة.
فقد روى ابن ماجه (4049) عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ، حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ، وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي لَيْلَةٍ، فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ، وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ، يَقُولُونَ أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَنَحْنُ نَقُولُهَا .
فَقَالَ لَهُ صِلَةُ: مَا تُغْنِي عَنْهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا صَلَاةٌ وَلَا صِيَامٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ؟!
فَأَعْرَضَ عَنْهُ حُذَيْفَةُ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ، ثَلَاثًا، كُلَّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ حُذَيْفَةُ .
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: يَا صِلَةُ ؛ تُنْجِيهِمْ مِنْ النَّارِ ، ثَلَاثًا).
والحديث صححه الألباني في صحيح ابن ماجه .
وقَوْله ( يُدْرَس الْإِسْلَام ) مِنْ دَرَسَ الثَّوْب دَرْسًا : إِذَا صَارَ عَتِيقًا .
وقَوْله ( وَشْي الثَّوْب ) وَهُوَ بِفَتْحٍ فَسُكُون : نَقْشه .
( وَلَيُسْرَى ) مِنْ السَّرَايَة ، أَيْ الدَّرْس أَوْ الدُّرُوس ، يُسْرَى لَيْلَة ( عَلَى كِتَاب اللَّه ) . انتهى من "حاشية السندي".
قال شيخ الإسلام رحمه الله : " وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة التي يندرس فيها كثير من علوم النبوات ، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة ، فلا يعلم كثيرا مما يبعث الله به رسوله ، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك ، ومثل هذا لا يكفر .
ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة = فإنه لا يُحكم بكفره حتى يُعَرَّف ما جاء به الرسول . ولهذا جاء في الحديث: «يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا صوما ولا حجا، إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقول: أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله ...) " انتهى من "مجموع الفتاوى" (11/407).
وقال شيخ الإسلام أيضا، بعد ذكر حديث الذي أوصى أهله أن يحرقوه بعد موته ، وشك في قدرة الله على بعثه :
" وقد بسطنا الكلام على هذا الحديث في مسألة التكفير ، وما فيها من اضطراب الناس ، في غير هذا الموضع .
وبينا أن من تأول قوله في هذا الحديث (قدر) بمعنى : ضيق ، أو بمعنى : قضى ؛ فلم يصب مقصود الحديث .
وبينا أن المؤمن الذي لا ريب في إيمانه : قد يخطيء في بعض الأمور العلمية الاعتقادية ، فيغفر له ، كما يغفر له ما يخطيء فيه من الأمور العملية .
وأن حكم الوعيد على الكفر : لا يثبت في حق الشخص المعين ، حتى تقوم عليه حجة الله التي بعث بها رسله ، كما قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) .
وأن الأمكنة والأزمنة التي تَفْتُر فيها النبوة : لا يكون حكم من خفيت عليه آثار النبوة ، حتى أنكر ما جاءت به خطأ ؛ كما يكون حكمه في الأمكنة والأزمنة التي ظهرت فيها آثار النبوة .
وذكرنا حديث حذيفة الذي فيه : ( يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا صوما ولا حجا إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقولان: أدركنا آباءنا وهم يقولون: (لا إله إلا الله) . فقيل لحذيفة: ما يغني عنهم قول لا إله إلا الله وهم لايعرفون صلاة ولا زكاة ولا صوما ولا حجا؟ قال: تنجيهم من النار ، تنجيهم من النار ) .
وذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) دعاء قد استجابه الله كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة وابن عباس .. " انتهى. من "بغية المرتاد" (311) .
ثانيا:
من بلغته المحجة، وقامت عليه الحُجّة، فليس معذورا.
وأما من لم تبلغه الحجة، فالصحيح أنه يمتحن يوم القيامة. هذا في أحكام الآخرة.
وأما في أحكام الدنيا: فكل من دان بغير دين الإسلام فهو كافر، سواء قامت عليه الحجة أم لا.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: " ومن لم تقم عليه الحجة في الدنيا بالرسالة ، كالأطفال والمجانين وأهل الفترات : فهؤلاء فيهم أقوال ؛ أظهرها ما جاءت به الآثار : أنهم يمتحنون يوم القيامة ، فيبعث الله إليهم من يأمرهم بطاعته، فإن أطاعوه استحقوا الثواب ، وإن عصوه استحقوا العقاب" انتهى من الجواب الصحيح (2/ 298).
وقال ابن القيم رحمه الله: " والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله ، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل ، فهذا مقطوع به في جملة الخلق .
وأما كون زيد بعينه ، وعمرو بعينه ، قامت عليه الحجة أم لا ؛ فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه .
بل الواجب على العبد : أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر .
وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً ، إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول .
هذا في الجملة ، والتعيين موكول إلى علم الله عز وجل وحكمه.
هذا في أحكام الثواب والعقاب .
وأما في أحكام الدنيا : فهي جارية مع ظاهر الأمر .
وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة؛ وهو مبني على أربعة أُصول :
أحدها : أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه ... وهذا كثير في القرآن، يخبر أنه إنما يعذّب من جاءه الرسول ، وقامت عليه الحجة، وهو المذنب الذى يعترف بذنبه، وقال تعالى: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) [الزخرف: 76] ، والظالم من عرف ما جاءَ به الرسول ، أو تمكن من معرفته .
وأما من لم يكن عنده من الرسول خبر أصلاً ، ولا تمكن من معرفته بوجه ، وعجز عن ذلك ، فكيف يقال إنه ظالم .
الأصل الثاني : أن العذاب يُستحق بسببين :
أحدهما : الإعراض عن الحجة ، وعدم إرادة العلم بها ، وبموجبها .
الثاني : العناد لها بعد قيامها ، وترك إرادة موجبها .
فالأول كفر إعراض ، والثاني كفر عناد .
وأما كفر الجهل ، مع عدم قيام الحجة ، وعدم التمكن من معرفتها : فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل .
الأصل الثالث : أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص ، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان ، وفي بقعة وناحية دون أُخرى ، كما أنها تقوم على شخص دون آخر ، إما لعدم عقله وتمييزه، كالصغير والمجنون ، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له ؛ فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئاً ، ولا يتمكن من الفهم ، وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة .
الأصل الرابع : أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته التي لا يخل بها سبحانه ، وأنها مقصودة لغايتها المحمودة وعواقبها الحميدة " انتهى باختصار من " طريق الهجرتين " ص413
وانظر في امتحان أهل الفترة: جواب السؤال رقم (98714).
وإذا كان قيام الحجة يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، فلا يصح أن يقال: إن الناس ، أو شرار الخلق في آخر الزمان : قد قامت عليهم الحجة، بل كل أحد : بحسبه.
وقد بينت السنة أن شرار الخلق الذين تقوم عليهم الساعة يعبدون الأوثان، وذلك بعد أن يرسل الله ريحا باردة تقبض أرواح المؤمنين، فلم يبق بعد قبض المؤمنين جميعهم ، إلا هؤلاء الكفار الأشرار ، الذين يعبدون الأوثان ، ويسارعون إلى المنكر ، ولا يعرفون المعروف .
روى مسلم (2940) عَنْ عَبْد اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ ، ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ .
ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ إِيمَانٍ إِلَّا قَبَضَتْهُ ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبِدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ .
قَالَ : فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ ، فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ ، لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا ، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمْ الشَّيْطَانُ ، فَيَقُولُ أَلَا تَسْتَجِيبُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : فَمَا تَأْمُرُنَا ؟ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ دَارٌّ رِزْقُهُمْ ، حَسَنٌ عَيْشُهُمْ ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) .
وانظر في بيان شرار الخلق الذين تقوم عليهم الساعة: جواب السؤال رقم (91794).
والله أعلم بتفاصيل أحوال أولئك الشرار، ومن قامت عليه الحجة منهم بعينه ، ومن لم تقم عليه ، لكن ظاهر الأخبار في بيان حالهم : صرحت بأنهم : كفار ، يعبدون الأوثان ، ويطيعون الشيطان ، ووصفتهم بالشر ، والبعد عن الخير ..
وهذا كله يدل على أنهم قد بلغهم الدين الحق ، ولو مجملا ، فكفروا به ، وأنهم مذمومون ، مؤاخذون على تلك الحال ، لا أنهم معذورون فيها .
وفي صحيح مسلم أيضا (1924) : عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن شِمَاسَةَ الْمَهْرِيُّ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مَسْلَمَةَ بْنِ مُخَلَّدٍ، وَعِنْدَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ، هُمْ شَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَدْعُونَ اللهَ بِشَيْءٍ إِلَّا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ ... )
والله أعلم.