الحمد لله.
أولا:
دلت النصوص الصحيحة على أن الجنة درجات، وأنها مائة درجة، وأن أعلى درجة منها هي درجته صلى الله عليه وسلم. وهذه الدرجات تسمى المنازل، والواحدة منها تسمى منزلة.
قال تعالى : ( انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ) الإسراء/ 21 ، وقال تعالى : ( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) الأنعام/ من الآية132 .
روى البخاري (2790) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ ).
وجاء في بيان درجته ومنزلته صلى الله عليه وسلم: ما روى مسلم (384) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ ).
وروى الترمذي (3612) عن أبي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سَلُوا اللَّهَ لِيَ الوَسِيلَةَ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الوَسِيلَةُ ؟ ، قَالَ : ( أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الجَنَّةِ ؛ لَا يَنَالُهَا إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ ، أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُو َ) وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " .
وروى أحمد (11783) عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( الْوَسِيلَةُ دَرَجَةٌ عِنْدَ اللهِ لَيْسَ فَوْقَهَا دَرَجَةٌ ، فَسَلُوا اللهَ أَنْ يُؤْتِيَنِي الْوَسِيلَةَ ) .
قال ابن القيم رحمه الله: "وسميت درجة النبي صلى الله عليه وسلم الوسيلة؛ لأنها أقرب الدرجات إلى عرش الرحمن، وهي أقرب الدرجات إلى الله، وأصل اشتقاق لفظ الوسيلة من القرب، وهي فعيلة من وَسَل إليه ، إذا تقرب إليه.
قال لبيد:
بلى كل ذي رأي إلى الله واسلُ
ومعني الوسيلة من الوصلة، ولهذا كانت أفضل الجنة وأشرفها وأعظمها نورا...
ولما كان رسول [الله] صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق عبودية لربه وأعلمهم به وأشدهم له خشية وأعظمهم له محبة، كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله، وهي أعلى درجة في الجنة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن يسألوها له لينالوا بهذا الدعاء زلفى من الله وزيادة الإيمان" انتهى من حادي الأرواح، ص82
وفي هذا بيان أن المنزلة هي الدرجة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سمى الوسيلة منزلة، وسماها درجة أيضا.
ودل على هذا أيضا: ما رواه البخاري (3256) ومسلم (2831) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأُفُقِ، مِنَ المَشْرِقِ أَوِ المَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ» قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: «بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ).
وروى مسلم (189) عن الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ قال : قال رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً ؟ قَالَ : هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ فَيُقَالُ لَهُ : ادْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ ؟ فَيُقَالُ لَهُ : أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا ؟ فَيَقُولُ : رَضِيتُ رَبِّ ، فَيَقُولُ : لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ : رَضِيتُ رَبِّ ، فَيَقُولُ : هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ ، فَيَقُولُ : رَضِيتُ رَبِّ ).
فأهل الجنة يتفاوتون في المنازل، وهي الدرجات، كما علم من الأحاديث السابقة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " والجنَّة درجات ، متفاضلة تفاضلاً عظيماً ، وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات : بحسب إيمانهم ، وتقواهم" انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 11 / 188 ).
وقال السيوطي رحمه الله في شرح حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ، فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ، فَفَعَلَ، ثُمَّ قَالَ: وَأُخْرَى يُرْفَعُ بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ:
" قَالَ القَاضِي يحْتَمل أَن هَذَا على ظَاهره ، وَأَن الدَّرَجَات هُنَا : الْمنَازل الَّتِي بَعْضهَا أرفع من بعض فِي الظَّاهِر ، وَهَذِه صفة منَازِل الْجنَّة ، كَمَا جَاءَ فِي أهل الغرف أَنَّهُمَا يتراءون كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّي . وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد : الرّفْعَة بِالْمَعْنَى ، من كَثْرَة النَّعيم وَعظم الْإِحْسَان ، وَأَنه يتفاضل تفاضلا كَبِيرا . أَو يكون تباعده فِي الْفضل كَمَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض فِي الْبعد .
قَالَ القَاضِي وَالْأول أظهر .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : الدرجَة الْمنزلَة الرفيعة ، وَيُرَاد بهَا غرف الْجنَّة ، ومراتبها الَّتِي أَعْلَاهَا الفردوس" انتهى من الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج (4/ 475).
وفرق القسطلاني رحمه الله بين المنزلة والدرجة ، بأن ما ترتب على العمل : فهو منزلة، وما جاء إكراما من الله أو بسبب الشفاعة فهو درجة، وينظر: التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 275).
وهذا التفريق لا تساعد عليه النصوص المتقدمة ، ولم نقف على مستنده فيه .
ثانيا:
ليس ممنوعا على عامة المؤمنين الوصول إلى الدرجات العليا من الجنة، كما سبق في حديث (منازل الأنبياء)، وكما في حديث: (فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ).وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وانظر للفائدة: جواب السؤال رقم (158039).
والله أعلم.