الحمد لله.
أولا :
طلب الدعاء أو الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم على نوعين :
الأول : أن يتوجه بالعبادة للرسول صلى الله عليه وسلم ، كالسجود أو النذر له ، أو التوكل عليه ، أو دعائه : بأن ييسر له أمره ، أو يفرج عنه كربه ، أو يوسع عليه رزقه .. ونحو ذلك .
ثم يزعم أنه يفعل ذلك لكي يتوسط له الرسول صلى الله عليه وسلم عند الله ، فيدعو الله له أن يحصل له مطلوبه .
فهذا شرك أكبر مخرج عن الإسلام بإجماع العلماء .
وهذا بعينه هو فعل المشركين ، كما حكاه الله عنهم ، قال الله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) يونس/18 .
وقال تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) الزمر/3 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط [يعني بينه وبين الله] يدعوهم ويتوكل عليهم ، ويسألهم جلب المنافع ، ودفع المضار ، مثل أن يسألهم غفران الذنب ، وهداية القلوب ، وتفريج الكروب وسد الفاقات: فهو كافر بإجماع المسلمين " انتهى من " مجموع الفتاوى " (1/124) .
قال البهوتي في "كشاف القناع" (6/168) تعليقا على كلام شيخ الإسلام : "لِأَنَّ ذَلِكَ كَفِعْلِ عَابِدِي الْأَصْنَامِ قَائِلِينَ : (مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى)" انتهى .
النوع الثاني :
أن لا يتوجه بشيء من العبادات للرسول صلى الله عليه وسلم ، لا الدعاء ولا غيره ، غير أنه يطلب منه أن يدعو الله له ، أو يشفع له عند الله .
فهذا قد اختلف العلماء فيه ، فذهب بعض العلماء إلى أنه بدعة منكرة وذريعة إلى الشرك ، وانظر السؤال رقم (226599) .
وذهب آخرون إلى أنه شرك أكبر ، وجعلوا هذا دعاءً للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولاشك أن دعاء غير الله كفر ، وهو قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب وابنه الشيخ عبد الله رحمهما الله ... وغيرهم . انظر : صيانة الإنسان (ص184 ، 185) .
وقد سبق في السؤال رقم (153666) فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في ذلك .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
" فالمهم أن الإنسان إذا رجا الله عز وجل أن يُشَفِّع فيه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، أو يشفع فيه أحدا من الصالحين ، بدون أن يسألهم ذلك : فهذا لا بأس به.
وأما أن يسألهم فيقول: يا رسول الله اشفع لي، أو يا فلان اشفع لي، أو ما أشبه ذلك : فهذا لا يجوز، بل هو من دعاء غير الله عز وجل، ودعاء غير الله شرك" انتهى .
ثانيا :
الحكم على القول بأنه كفر: لا يعني أن كل من قاله فهو كافر ، فإنه قد يكون معذورا بجهل أو تأويل .. أو غير ذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا ، فهو حق ، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين .. " انتهى من "مجموع الفتاوى" (3/230) .
ومما يمنع من تكفير المعين الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله : النشوء ببيئة بعيدة عن العلماء ، يُفعل فيها الكفر جهلا ، ولا أحد من أهل العلم المرجوع إليهم : ينكره ، ولا يبين لهم وجه الباطل فيه .
وأشد من ذلك إذا وُجد مَن يزين للناس هذا الفعل ، ممن اشتهر بالعلم ، وأخذ الناس عنه !!
قال شيخ الإسلام :
"وقد حدث من بعض المتأخرين في ذلك بدع لم يستحبها أحد من الأئمة الأربعة كسؤاله الاستغفار ، وزاد بعض جهال العامة ما هو محرم أو كفر بإجماع المسلمين كالسجود للحجرة والطواف بها وأمثال ذلك مما ليس هذا موضعه.
ومبدأ ذلك من الذين ظنوا أن هذا زيارة لقبره، فظن هؤلاء أن الأنبياء والصالحين تزار قبورهم لدعائهم والطلب منهم واتخاذ قبورهم أوثانًا حتى يفضلون تلك البقعة على المساجد، وإن بني عليها مسجد فضلوه على المساجد التي بنيت لله، وحتى قد يفضلون الحج إلى قبر من يعظمونه على الحج إلى البيت العتيق، إلى غير ذلك مما هو كفر وردة عن الإسلام باتفاق المسلمين" انتهى من "الرد على الإخنائي" ص(354) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" إذا فرضنا أنه قد عاش في بيئة تفعل الكفر، وعلماؤها موجودون، وهم يقرون ذلك ولا ينكرونه، ولم يتكلم أحد منهم عنده بأن هذا كفر ، ككثير من العامة في البلاد الإسلامية الذين يدعون القبور ، وأصحاب القبور ، وما أشبه ذلك ، فقد يقال: إن هذا الرجل معذور ؛ وقد عاش في بلد تعتبر بلادا يظهر فيها الشرك ، ولا سمع بأن هذا شرك ، فهذا قد يعذر ؛ لأنه ليس لديه سبب يوجب الانتباه ، وطلب العلم " انتهى من "الشرح الممتع" (14/450) .
وينظر جواب السؤال (215338) .
وقال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالة له اختصرها من رسائل أبيه:
" إن قال قائل منفر عن قبول الحق والإذعان له : يلزمكم من تقريركم وقطعكم في أن من قال : يا رسول الله ، أسألك الشفاعة : إنه مشرك مهدر الدم ، أن يقال : غالب الأمة ، لاسيما المتأخرين مشركون ، لتصريح علمائهم المعتبرين : من أن ذلك مندوب ، وشنوا الغارة على من خالف ذلك ؟!
قلت : لا يلزم ذلك ، لأن لازم المذهب ليس بمذهب ، كما هو مقرر ...
ونحن نقول فيمن مات : (تلك أمة قد خلت) ، ولا نكفر إلا من بلغته الدعوة ، ووضحت له المحجة ، وقامت عليه الحجة ، وأصر مستكبرا معاندا ...
ونعتذر عمن مضى : بأنهم مخطؤون معذورون ، لعدم عصمتِهم من الخطأ ، والإجماعِ في ذلك قطعا [أي ولعدم الإجماع في هذه المسألة] ، ومن شن الغارة فقد غلط ...
فإن قلت : هذا فيمن ذَهَل ، ولما نُبِّه ، انتبه ؛ فما القول فيمن حرر الأدلة ، واطلع على كلام الأئمة القدوة ، فاستمر مصرا على ذلك إلى أن مات ؟
قلت : ولا مانع أن يُعتذر لمن ذُكر ، ولا نقول إنه كافر ؛ لما تقدم أنه مخطئ ، وإن استمر على خطئه ، لعدم من يُناضِل عن هذه المسألة في وقته ، بلسانه وسيفه وسنانه ، فلم تتم عليه حجة ، ولا وضحت له المحجة .
بل الغالب على من ألف ، زمن المؤلفين المذكورين : التواطؤ على هجر كلام أئمة السنة في ذلك رأسا ، ومن اطلع عليه ، أعرض عنه قبل أن يتمكن في قلبه ، ولم تزل أكابرهم تنهى أصاغرهم عن مطلق النظر في ذلك ...
ونحن كذلك لا نقول بكفر من صحت ديانته ، وشُهر صلاحه وورعه وزهده ، وحسنت سيرته ، وبالغ في نصح الأمة ، ببذل نفسه في تدريس العلوم النافعة والتأليف فيها ، وإن كان مخطئا في هذه المسألة أو غيرها ، كابن حجر الهيتمي ، فإنا نعلم كلامه في "الدر المنظم" ، ولا ننكر سعة علمه ، ولهذا نعتني بكتبه ، كشرح الأربعين والزواجر وغيرها ، ونعتمد على نقله إذا نقل ، لأنه من جملة علماء المسلمين" انتهى من "صيانة الإنسان" (ص437-439) باختصار .
وبناء على هذا : فإننا لا نرى كفر الأئمة الذين ذكرتهم في سؤالك ، لأننا لا نقطع بقيام الحجة عليهم ، بل الغالب أنهم يكونون جهالا بهذه المسألة ، ووجدوا علماءهم أو من يثقون فيه يقول ذلك فقلدوه .
هذا مع ما في أصل المسألة المذكورة من الخلاف : هل هي من الشرك الأكبر ، كما قاله بعض أهل العلم ، أو هي : ذريعة للشرك ، وليست في نفسها من الشرك الأكبر ، كما قاله آخرون ، وهو الأقرب فيها .
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله :
" .. الأنبياء والصالحون ، وإن كانوا أحياء في قبورهم ، وإن قدر أنهم يدعون للأحياء ، وإن وردت به آثار :
فليس لأحد أن يطلب منهم ذلك ، ولم يفعل ذلك أحد من السلف ؛ لأن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم ، وعبادتهم من دون الله تعالى .
بخلاف الطلب من أحدهم في حياته ، فإنه لا يفضي إلى الشرك " انتهى من "قاعدة جليلة" ص (193) .
وفي "الفتاوى" (1/180) : " إن دعاءهم وطلب الشفاعة منهم في هذه الحال : يفضي إلى الشرك بهم، ففيه هذه المفسدة .
فلو قدر أن فيه مصلحة لكانت هذه المفسدة راجحة، فكيف ولا مصلحة فيه" انتهى .
وينظر : "التعليق على فتح الباري" ، للشيخ ابن باز رحمه الله (2/495) .
والحاصل : أنه يجوز لك أن تصلي خلفهم ، لأنهم معذورون بجهلهم .
وينبغي أن تنصح هؤلاء وتبين لهم أن ما يقولونه بدعة منكرة ، وهو شرك أكبر على قول كثير من العلماء كما سبق بيانه .
والله أعلم .