الحمد لله.
أولًا :
نعم ، سوف يسألنا الله تعالى عن النعيم الذي غمرنا به ، (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ) التكاثر/8.
ومن هذا النعيم الذي سيسألنا الله تعالى عنه : الأموال التي ملكها لنا، ورزقنا إياها .
وسيسأل كل إنسان يوم القيامة عن ماله سؤالين بيَّنهما النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : (لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتّى يُسْأَلَ عَنْ ... عن مَالِهِ : مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفيمَ أَنْفَقَهُ) رواه الترمذي (2417) وصححه الشيخ الألباني في " صحيح الترغيب والترهيب " (126) .
(من أين اكتسبه؟) سؤال عن مصدر هذا المال ، هل اكتسبه من حلال أم من حرام ؟
(وفيم أنفقه؟) هل أنفقه في طاعة الله تعالى واستعان به على طاعة الله ؟
أم أنفقه في مباح ؟ أم أنفقه في معصية الله ؟
والمال الذي يدخره المسلم لشراء منزل لن يخرج عن هذين السؤالين :
من أين اكتسبه صاحبه ؟ وفيم أنفقه ؟
غير أنه من المعلوم : أن حاجة الإنسان إلى المسكن من الحاجات الأساسية له ، فإذا أحسن المسلم النية ، وكان قصده بشراء المنزل أن يُكِنَّ فيه نفسه وعياله ، على الوجه اللائق بمثلهم ؛ وأن يقي نفسه ذل الحاجة إلى الناس ، وأن يكون ذلك عونا له على طاعة الله تعالى ، بحصول استقراره النفسي والبدني : فإن شراء المنزل في هذه الحالة يكون طاعة لله تعالى يثاب عليها المسلم .
فإن أضيف إلى ذلك كون المسلم صاحب أسرة، ونوى بشراء المنزل الإحسان إلى أسرته ، والقيام بحقوقهم ، والنفقة عليهم : كان ذلك أعظم لأجره .
وهذا هو جواب السؤال الثاني المتعلق بالمال : (فيم أنفقه ؟) .
وبقي عليه أن يحرص على الكسب الحلال البعيد عن الربا والظلم والغش وسائر المحرمات ، حتى ينجو من السؤال الأول : (من أين اكتسبه؟) .
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الرزق الحلال الطيب ، وأن يوفقنا لإنفاقه في مرضاته .
ثانيا :
الأصل في حكم القرض بالنسبة للمقرض أنه سنة مستحبة ، وليس واجبًا ، وذلك لما فيه من الإحسان إلى المسلم ، وسدِّ حاجته ، وتنفيس كربته .
وقد جاء في بعض الأحاديث الترغيب فيه ، وأن ثوابه على النصف من ثواب الصدقة ، وقد سبق بيان هذا في جواب السؤال رقم (137772) .
قال الشوكاني رحمه الله :
" وَفِي فَضِيلَةِ الْقَرْضِ : أَحَادِيثُ وَعُمُومِيَّاتُ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْحَدِيثِيَّةِ ، الْقَاضِيَةِ بِفَضْلِ الْمُعَاوَنَةِ ، وَقَضَاءِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِ ، وَتَفْرِيجِ كُرْبَتِهِ ، وَسَدِّ فَاقَتِهِ : شَامِلَةٌ لَهُ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ" "نيل الأوطار" (5/273) .
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية (33/113) :
"الأْصْل فِي الْقَرْضِ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ : أَنَّهُ قُرْبَةٌ مِنَ الْقُرَبِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِيصَال النَّفْعِ لِلْمُقْتَرِضِ، وَقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَتَفْرِيجِ كُرْبَتِهِ .
وَأَنَّ حُكْمَهُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهِ : النَّدْبُ .
لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: ( مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ ) " انتهى .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع " (9/94) :
القرض مندوب في حق المقرِض ، أي: مستحب؛ وذلك لأنه من الإحسان ، فيدخل في عموم قول الله تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة: 195] .
ومن حيث المعنى فإن فيه دفع حاجة أخيك المسلم .
وربما يكون القرض أحياناً أكثر ثواباً من الصدقة؛ لأنه لا يستقرض إلا محتاج في الغالب، والصدقة أفضل من جهة أنها لا تشغل الذمة، فإذا أعطيته لم يكن في ذمته شيء" انتهى .
فإذا ثبت هذا ، (أي أن القرض مستحب بالنسبة للمقرض) : تبين أنه لا إثم على صاحب المال ، إن رفض إقراض شيء من ماله ، لمن سأله ذلك .
لأن حكم المستحب أنه يثاب من فعله ، ولا يأثم من تركه ، ولو من غير عذر .
ويتأكد ذلك: إذا كان المسلم في حاجة إلى المال الذي معه لشراء ما يحتاج إليه هو أو أسرته ، كشراء المنزل ، أو كان هذا القرض يخل ببعض احتياجاته العامة ، لنفسه ، ولأسرته .
ثالثا :
قد يخرج القرض عن حكمه الأصلي الذي هو الاستحباب ، فيكون واجبا أو محرما ، وذلك في بعض الحالات الاستثنائية .
جاء في الموسوعة الفقهية (33/113) :
" لَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ أَوِ الْكَرَاهَةُ أَوِ الْحُرْمَةُ أَوِ الإْبَاحَةُ، بِحَسَبِ مَا يُلاَبِسُهُ أَوْ يُفْضِي إِلَيْهِ، إِذْ لِلْوَسَائِل حُكْمُ الْمَقَاصِدِ.
وَعَلَى ذَلِكَ:
فَإِنْ كَانَ الْمُقْتَرِضُ مُضْطَرًّا ، وَالْمُقْرِضُ مَلِيئًا : كَانَ إِقْرَاضُهُ وَاجِبًا .
وَإِنْ عَلِمَ الْمُقْرِضُ ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ، أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَصْرِفُهُ فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ مَكْرُوهٍ : كَانَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا بِحَسَبِ الْحَال .
وَلَوِ اقْتَرَضَ تَاجِرٌ لاَ لِحَاجَةٍ، بَل لِيَزِيدَ فِي تِجَارَتِهِ طَمَعًا فِي الرِّبْحِ الْحَاصِل مِنْهُ، كَانَ إِقْرَاضُهُ مُبَاحًا، حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَشْتَمِل عَلَى تَنْفِيسِ كُرْبَةٍ، لِيَكُونَ مَطْلُوبًا شَرْعًا " انتهى .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع" (9/94) .
"ويجب القرض أحياناً فيما إذا كان المقترض مضطراً ، لا تندفع ضرورته إلا بالقرض .
ولكن لا يجب إلا على من كان قادراً عليه، من غير ضرر عليه في مؤونته ولا مؤونة عياله.
كما أنه يكون أحياناً حراماً ، إذا كان المقترض اقترض لعمل محرم ، لقوله تعالى: (وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2] .
ولكنه من حيث الأصل هو بالنسبة للمقرض مندوب؛ لأنه من الإحسان" " انتهى .
فاشترط العلماء عدة شروط حتى يكون
القرض واجبا على المقرض :
1- أن يكون المقترض مضطرا ، كما لو كان سيجري عملية جراحية إذا لم يجرها مات ، أو
فقد عضوا من أعضائه ، أو كان سيشرد في الشارع ، أو سيدخل السجن .. فهذا ونحوه هو
الضرورة .
2- أن لا تندفع ضرورته إلا بالقرض ، بأن لا يكون عنده وسيلة لتحصيل المال إلا القرض،
فقد يكون عنده بعض الممتلكات التي يمكنه بيعها، أو يمكنه التقدم للحكومة أو لبعض
الجمعيات الخيرية، لأخذ ما يحتاج إليه من المال ، فهذا ليس مضطرا للقرض .
3- أن يكون المقرض مليئا (أي : غنيا) بأن يكون معه من المال ما يزيد عن حاجته وحاجة
أسرته .
4- أن لا يكون عليه ضرر في هذا القرض، ومن الضرر : أن يخشى ضياع القرض عليه ، بأن
يكون المقترض لن يتمكن من سداد القرض ، أو يكون شخصا معروفا بالمماطلة وعدم أداء
الحقوق إلى أهلها، ففي هذه الحالة لا يجب على المقرض أن يقرضه .
والخلاصة :
أنه لا حرج على المسلم أن يدخر المال لشراء منزل له ولأسرته ، وأنه إذا أحسن النية في ذلك كان هذا من النفقة التي يثاب عليها .
وأنه لا حرج عليه أن يمتنع من إقراض المال الذي يحتاجه لشراء المنزل ، لاسيما إذا كان المقترض لن يتمكن من سداده .
وأنه لا يجب عليه الإقراض إلا في حالات ضيقة، وفق الشروط التي ذكرها العلماء .
والله أعلم .