الحمد لله.
أولا:
لإثبات الإسلام للشخص ظاهرا، ومعاملته معاملة المسلمين؛ يكفي أولا أن يكون ناطقا بالشهادتين.
قال الله تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) النساء (94).
وعن أُسَامَةَ بْن زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: ( بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا القَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ، قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَفَّ الأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ ) رواه البخاري (4269) ومسلم (96).
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" والمسلم إذا لقي الكافر ولا عهد له؛ جاز له قتله، فإن قال: لا إله إلا الله، لم يجز قتله، لأنه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله وأهله، فإن قتله بعد ذلك قُتل به. وإنما سقط القتل عن هؤلاء لأجل أنهم كانوا في صدر الإسلام، وتأولوا أنه قالها متعوذا وخوفا من السلاح، وأن العاصم قولها مطمئنا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاصم كيفما قالها، ولذلك قال لأسامة: ( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟) أخرجه مسلم. أي تنظر أصادق هو في قوله أم كاذب؟ وذلك لا يمكن، فلم يبق إلا أن يُبين عنه لسانه.
وفي هذا من الفقه باب عظيم، وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر، لا على القطع واطلاع السرائر " انتهى من "تفسير القرطبي" (7 / 51).
وبعد النطق، عليه أن يظهر منه أداء حق هذه الكلمة، فيظهر الانقياد لها ، والالتزام بشرائعها .
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ) رواه البخاري (25) ومسلم (22).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، وَصَلَّوْا صَلاَتَنَا، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ) رواه البخاري (392)
وفي لفظ آخر عند البخاري : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ المُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ ) البخاري (391).
قال البغوي رحمه الله تعالى:
" وفي الحديث دليل على أن أمور الناس في معاملة بعضهم بعضا، إنما تجري على الظاهر من أحوالهم دون باطنها، وأن من أظهر شعار الدين، أجري عليه حكمه، ولم يكشف عن باطن أمره " انتهى من "شرح السنة" (1 / 70).
ثانيا:
ينبغي أن يُعلم أن الإيمان في الظاهر ، لا يستلزم – دائما - الإيمان في الباطن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا: لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة، فإن المنافقين الذين قالوا: ( آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) .
هم في الظاهر مؤمنون يصلون مع الناس. ويصومون ويحجون ويغزون، والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم ، كما كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر، لا في مناكحتهم ولا موارثتهم ولا نحو ذلك " انتهى، من مجموع الفتاوى" (7 / 210).
وحتى يتحقق للشخص الإسلام ظاهرا وباطنا ، فإنه يستوجب عليه أن يكون محققا لكل شروط كلمة التوحيد.
وقد سبق بيانها في الفتوى رقم (12295) ورقم (9104).
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى:
" عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ )، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ) ...
قوله: ( من شهد أن لا إله إلا الله )، أي: من تكلم بهذه الكلمة ، عارفًا لمعناها، عاملاً بمقتضاها باطنًا وظاهرًا، كما دل عليه قوله: ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ) ، وقوله: ( إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ).
أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا عمل بمقتضاها، فإن ذلك غير نافع بالإجماع " انتهى، من " تيسير العزيز الحميد" (ص 51).
لكن هذه الشروط : المطلوب منا هو تحقيق معانيها، والإيمان بها .
وأما حكاية ألفاظ هذه الشروط ، وتعريفاتها : فليس مرادا ؛ بل إن الامتحان بمثل ذلك بدعة مردودة ، وإنما الواجب تعليم الناس دينهم ، وعقائدهم ، وحمل أمورهم على السلامة .
فأكثر عوام المسلمين لا يستطيعون إحصاء هذه الشروط ، لكنهم يتصورون معانيها؛ فلو سئل عن وجوب حب الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم، وحكم طاعتهما والقبول بما أخبرا به وتصديقهما وباقي شروط كلمة التوحيد : لأقروا بها .
وعلامة ذلك أن نراهم منقادين إلى أداء الفرائض ، والحرص عليها ، من غير إجبار ولا خوف من أحد، ونراهم يستفتون أهل العلم عما يجهلون من أحكام الشرع ، وغير هذا من العلامات الدالة على صدق إسلامهم.
قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله تعالى:
" لم ينتفع قائل لا إله إلا الله بنطقه بها مجردا ، إلا حيث يستكملها أي: هذه الشروط السبعة. ومعنى استكمالها : اجتماعها في العبد ، والتزامه إياها ، بدون مناقضة منه لشيء منها .
وليس المراد من ذلك عد ألفاظها وحفظها ؛ فكم من عامي اجتمعت فيه ، والتزمها ؛ ولو قيل له: اعددها لم يحسن ذلك .
وكم حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم ، وتراه يقع كثيرا فيما يناقضها، والتوفيق بيد الله، والله المستعان " انتهى، من "معارج القبول" (2 / 418).
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى:
" فالواجب على جميع المسلمين أن يحققوا هذه الكلمة بمراعاة هذه الشروط .
ومتى وجد من المسلم معناها ، والاستقامة عليه : فهو مسلم حرام الدم والمال، وإن لم يعرف تفاصيل هذه الشروط ؛ لأن المقصود هو العلم بالحق ، والعمل به ؛ وإن لم يعرف المؤمن تفاصيل الشروط المطلوبة " انتهى، من "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (7 / 58).
ومثل هذا يقال في باقي مسائل العقيدة.
وإذا تقرر أن إجراء الأحكام في الدنيا إنما هو على الإيمان الظاهر ، فليعلم أن إيمان الباطن ، والحكم على عقائد الأشخاص ، وحقائق أديانهم : ليس للعباد في شيء ؛ بل هو لله رب العالمين ، يحكم في عباده بعلمه وخبرته سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) النمل /78
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ) رواه البخاري (4351) ومسلم (1064) .
فالخلاصة؛ أن مثل هذا الشخص الذي وصفت حاله : الأصل فيهم ، والغالب : أن معهم من الإيمان المجمل ما يُرجى لهم به النجاة يوم القيامة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئا فشيئا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون لا إلى اليقين ولا إلى الجهاد، ولو شككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفارا ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ولرسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة." انتهى، من "مجموع الفتاوى" (7 / 271).
والله أعلم.