الحمد لله.
أولا:
حقيقة هذه المعاملة أن من خرجت له الأرض المدعومة من الدولة، يبيع نصفها لغيره، فيصبح شريكا له فيها، وهذا جائز بشرطين:
الأول: أن يكون الثمن معلوما. فإذا كان الثمن هو نصف الأقساط ونصف تكلفة الترخيص، وكان ذلك معلوما، فلا حرج.
فإن كان مجهولا لم يصح البيع في قول جمهور أهل العلم؛ لاشتراطهم العلم بالثمن عند العقد. خلافا لشيخ الإسلام ابن تيمية فإنه يصحح البيع بما يكون مآله العلم، كالبيع بما يبيع به الناس.
الثاني: ألا تشترط الدولة عدم البيع إلى سداد الأقساط، فإن وجد هذا الشرط، حرم بيع الأرض، فإن باع مع ذلك: أثم، وصح البيع.
ثانيا:
إذا كان العرف أن من باع الأرض المدعومة لا يبيعها بمثل ما ذكرت، بل بأكثر من ذلك بكثير، فقد حصل لك غبن فاحش، وهل لك الخيار أم لا ؟
في ذلك خلاف بين الفقهاء، نجمله فيما يلي:
1-جمهور الفقهاء على حصر خيار الغبن في صور معدودة يحصل فيها التغرير من أحد الطرفين للآخر، كتلقي الركبان، والنجش، والمسترسل الذي يقول: أبيعك بما يشتري الناس وهو لا يدري، فهؤلاء هم الذين لهم الخيار، وأما غير هؤلاء فلا خيار لهم عند الجمهور.
قال في "درر الحكام في شرح مجلة الأحكام" (1/ 368): " (المادة 356) إذا وجد غبن فاحش في البيع ولم يوجد تغرير؛ فليس للمغبون أن يفسخ البيع .
إلا أنه إذا وجد الغبن وحده في مال اليتيم : لا يصح البيع .
ومال الوقف وبيت المال حكمه حكم مال اليتيم.
المراد من كلمة "بلا تغرير" : يعني أن يكون أحد المتبايعين لم يغرر بالآخر، فعليه إذا وقع الغبن على هذه الصورة ، أي بأن يُغبن أحد المتبايعين من نفسه؛ فليس له خيار الغبن ، ولذلك لا يحق له فسخ البيع ، حتى لو باع شخص ماله الذي بقيمة قرش واحد ، بألف قرش : فالبيع صحيح ؛ أي لا يوجد في البيع في حد ذاته خلل، ولا يقال بأن البيع غير صحيح بسبب بيعه بثمن فاحش جدا ، إلا أن البيع المذكور عند الإمام الثالث مكروه، أما عند الإمام الثاني فهو غير مكروه" انتهى.
وقال الدردير في الشرح الكبير (3/ 140): " (ولا) يرد المبيع (بغبن) بأن يكثر الثمن، أو يقل جدا ، (ولو خالف العادة) بأن خرج عن معتاد العقلاء" انتهى.
وقال الشيرازي في المهذب: " وإن اشترى شيأ فتبين أنه غبن في ثمنه : لم يثبت له الرد ؛ لما روي أن حَبَّان بن مُنقذ كان يُخدع في البيع ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إذا بعت فقل لا خلابة ، ولك الخيار ثلاثا. ولم يثبت له خيار الغبن .
ولأن المبيع سليم ، ولم يوجد من جهة البائع تدليس، وإنما فرط المشتري في ترك الاستظهار، فلم يجز له الرد".
قال السبكي في تكملة المجموع: " وقال أصحابنا لا يثبت الخيار بالغبن ، سواء أتفاحش أم لا
* وإن اشترى زجاجة بثمن كثير ، وهو يتوهمها جوهرة : فلا خيار له ، ولا نظر إلى ما يلحقه من الغبن لأن التقصير منه ، حيث لم يراجع أهل الخبرة...
ويخالف تلقى الركبان لان هناك وجد منه تغرير بالإخبار عن السعر على خلاف ما هو ، ولا طريق إلى الاستكشاف" انتهى.
وقال في كشاف القناع (3/ 213): " (وأما من له خبرة بسعر المبيع ويدخل على بصيرة بالغبن، ومن غبن لاستعجاله في البيع، ولو توقف فيه ولم يستعجل لم يغبن = فلا خيار لهما) لعدم التغرير" انتهى.
وذهب المالكية في قولٍ إلى أن خيار الغبن يثبت لكل من غبن بالثلث إذا كان يجهل القيمة.
قال الدسوقي: " وقال المتيطي: قال بعض البغداديين: إن زاد المشتري في المبيع على قيمته الثلث فأكثر : فسخ البيع . وكذلك إن باع بنقصان الثلث من قيمته ، فأعلى ، إذا كان جاهلا بما صنع، وقام قبل مجاوزة العام .
وبهذا أفتى المازري وابن عرفة والبرزلي وابن لب ، ومشى عليه ابن عاصم في متن التحفة حيث قال:
ومن بغبن في مبيع قامـــا**** فشرطه أن لا يجوز العاما
وأن يكون جاهلا بما صنــع**** والغبن للثلث فما زاد وقع
وعند ذا يفسخ بالأحكـــام**** وليس للعارف من قيــام اهـ.
قلت: والعمل به مستمر عندنا بفاس اهـ. بن" انتهى من الشرح الكبير (3/ 140).
وينظر: البهجة شرح التحفة (2/ 175).
2-الغبن المعتبر يرجع فيه إلى عادة التجار عند الجمهور، ولا يتقيد بالثلث.
وفي الموسوعة الفقهية (20/ 150): " والمراد بالغبن الفاحش عند الحنفية، والمالكية في الراجح، والحنابلة في قولٍ : أن العبرة في تقدير الغبن على عادة التجار. وإن اختلفت عباراتهم فإنها كلها تؤدي إلى هذا المعنى.
وإنما كانت العبرة بتقويم المقوِّمين، لأنهم هم الذين يرجع إليهم في العيوب ونحوها من الأمور التي تقتضي الخبرة في المعاملات.
والقول الثاني لكل من المالكية والحنابلة : أن المعتبر في الغبن الثلث .
والقول الثالث للمالكية ما زاد على الثلث" انتهى.
وقد سبق في موقعنا الفتوى بأن من غبن غبنا فاحشا : ثبت له الخيار ؛ فإن شاء أمضاه ، وإن شاء رده .
ينظر جواب السؤال رقم (239571).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " إذا اشترى سلعة بـ (2500) ريال، وهي لا تساوي إلا (1500) ريال، فإن كان البائع يعلم أن السعر (1500) ريال، ولكنه وجد هذا الرجل الغريب الذي لا يعرف الأسعار وباعها عليه بـ (2500) ، فإنه آثم ، ولا يحل له ذلك، وإذا علم المشتري بهذا فله الخيار، وهذا يسمى خيار الغبن؛ لأن (1000) من (2500) كثير، وأما لو كان الغبن يسيراً كـ (10%) ، فهذا لا يضر، ولا يزال الناس يتغابون بمثله.
أما إذا كان البائع لا يعلم، مثل: أن تكون هذه السلعة بـ (2500) ، ونزل السعر والبائع لا يدري بنزوله، فالبائع غير آثم، لكن حق المشتري باقٍ، وله الخيار؛ لأنه مغبون" انتهى من لقاء الباب المفتوح (56/ 14).
وبناء على هذا القول : فإنك إذا كنت لا تعلم القيمة التي يتعامل بها الناس عادة عند بيع مثل هذا النوع من الأراضي ، وكان قدر الغبن الذي وقع عليك فاحشا ، معتبرا في عرف التجار، أي : كان الفرق بين ما بعت به، وما يبيع به الناس، كثيرا بيِّنا : فإن لك الخيار بين الإمضاء والفسخ .
فإذا فسخت فلك البيع بعد ذلك لهذا الشخص أو غيره ، بالثمن العادل.
والله أعلم.