الحمد لله.
أولا:
يشترط لإقامة حد الزنا: ثبوته ، وذلك إما بشهادة أربعة رجال، أو بالإقرار، أو بظهور الحمل مع انتفاء الشبهة وانتفاء دعوى الغصب والإكراه على الراجح .
والدليل على اشتراط أربعة شهود : قوله تعالى : ( وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) النساء/15، وقوله : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) النور/4 ، وقوله : ( لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) النور/13 .
وروى مسلم (1498) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رضي الله عنه قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَؤُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ؟ قَالَ : (نَعَمْ).
وثبوت الزنا بشهادة الشهود : أمر متعذر غالبًا؛ لأنه من الصعب أن يوجد أربعة يشهدون على هذا.
ولهذا قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ولم يثبت الزنا بطريق الشهادة من فجر الإسلام إلى وقته ، وإنما ثبت بطريق الإقرار ؛ لأن الشهادة صعبة ، كما سيتبين إن شاء الله " انتهى من "الشرح الممتع" (14/257).
وقال رحمه الله: " فلو قالوا: رأيناه عليها متجردين ، فإن ذلك لا يقبل حتى لو قالوا : نشهد بأنه قد كان منها كما يكون الرجل من امرأته ، فإنها لا تكفي الشهادة ، بل لا بد أن يقولوا : نشهد أن ذكره في فرجها ، وهذا صعب جدا ، مثلما قال الرجل الذي شُهِدَ عليه في عهد عمر : لو كنت بين أفخاذنا لم تشهد هذه الشهادة ، وأظن هذا لا يمكن ...
فلو شهد الأربعة بأنهم رأوه كما يكون الرجل على امرأته ، فإنه لا يحد للزنا ، ولكن هل نقول: إن هذه تهمة قوية بشهادة هؤلاء الشهود العدول ، فيعزر؟
نعم ، فإذا لم يثبت الزنا الذي يثبت به الحد الشرعي ، فإنه يعزر لأجل التهمة " انتهى من "الشرح الممتع" (14/271) .
ثانيا:
إذا شهد أربعة رجال على زنا محصن أو محصنة، فأقيم الحد ورجم الزاني، ثم رجع أحد الشهود، ففي ذلك تفصيل:
1-فإن قال: تعمدت الكذب ليرجم، فعليه القوَد ، أي القصاص ، عند الشافعية والحنابلة وبعض المالكية، وبه قال ابن أبي ليلى والأوزاعي وأبو عبيد وابن شبرمة.
وهذا ما لم يعفُ أولياء المقتول إلى الدية أو مجانا.
وقد روى الشعبي أن رجلين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل أنه سرق فقطعه، ثم أتياه برجل آخر فقالا: إنا أخطأنا بالأول، وهذا السارق، فأبطل شهادتهما على الآخر، وضمنهما دية يد الأول، وقال: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما [رواه الشافعي في الأم (7 / 49) والطحاوي في اختلاف الفقهاء (ص 216) والبيهقي في السنن الكبرى (10 / 251)].
وذهب الحنفية، وجمهور المالكية: إلى أنه لا قود عليه، لأنه لم يباشر الإتلاف، فأشبه حافر البئر، وناصب السكين، إذا تلف بهما شيء، وعليه الدية.
2-وإن قال الراجع عن الشهادة: أخطأت، كان عليه الدية في ماله ، مخففة ، مؤجلة، ولا تتحمل العاقلة عنه شيئا؛ لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف.
فإن كان الراجع واحدا من أربعة، فإنه يتحمل ربع الدية. وإن كان واحدا من ستة (وهم شهود الزنا مع شهود الإحصان) فعليه سدس الدية.
ويحد حد القذف. وفي حد بقية الشهود خلاف.
3-وإن قال: تعمدت الشهادة ، ولم أعلم أنه يقتل، وجبت عليه دية مغلظة، لما فيه من العمد، ومؤجلة لما فيه من الخطأ.
وينظر: الموسوعة الفقهية (26/ 243- 245)، تبيين الحقائق (3/ 192)، شرح الخرشي (7/ 220)، مغني المحتاج (5/ 283)، (6/ 293)، الإنصاف (9/ 441)، (12/ 100).
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "وإذا رجع الرجل عن شهادته بالزنا ، وقد رجم صاحبه بها : فإن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يقول: يُضرب الحد ، ويغرم ربع الدية ، وبه نأخذ.
وكان ابن أبي ليلى يقول: أقتله، فإن رجعوا أربعتهم : قتلتهم ، ولا نغرمهم الدية .
فإن رجع ثلاثة ، في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى : ضُربوا الحد ، وغرم كل واحد منهم ربع الدية.
( قال الشافعي ) رحمه الله : وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فرجم، فرجع أحدهم عن شهادته، سأله القاضي عن رجوعه، فإن قال: عمدت أن أشهد بزور، قال له القاضي: علمت أنك إذا شهدت مع غيرك قُتل ؟ فإن قال: نعم، دفعه إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوا ، وإن شاءوا عفوا، فإن قالوا: نترك القتل ونأخذ الدية، كان لهم عليه ربع الدية، وعليه الحد في هذا كله [أي حد القذف].
وإن قال: شهدت ولا أعلم ما يكون عليه القتل، أو غيره، أُحْلِفَ ما عمد القتلَ ، وكان عليه ربع الدية ، والحدُّ.
وهكذا الشهود معه ، كلهم ، إذا رجعوا" انتهى من الأم (7/ 132).
وقال ابن قدامة رحمه الله: "وإن رجعوا عن الشهادة، أو واحد منهم، فعلى جميعهم الحد في أصح الروايتين. وهو قول أبي حنيفة...
وقال الشافعي: يحد الراجع دون الثلاثة" انتهى من المغني (9/ 73).
والله أعلم.