الحمد لله.
أولا:
لا شك أن إقامة المسلم في بلاد الغرب، تكتنفها مخاطر عدة، وفتن تلاحق المقيم في مدخله ومخرجه .
وفي خضم هذه المخاطر والفتن ، يتوجب على المسلم المبتلى بالإقامة في مثل هذه البلدان أن يتبع السبيل الذي ينجيه ويحفظ عليه دينه، ولا يكون ممن يشتري حطاما قليلا من الدنيا الفانية بالآخرة الباقية؛ وسبيل النجاة؛ يتطلب أمورا عدة؛ نذكر منها:
الأمر الأول:
على المسلم، أن لا يقيم بهذه البلدان إلا لحاجة لا بد منها، كمن نزل ببلده عدو متغلب ، أو بلاء عام ، ولم يمكنه الإقامة فيه ، ولم يجد من يستقبله، إلا هذه البلدان، أو لتجارة أو علم فيه مصالح راجحة، وكان مع هذا يستطيع أن يظهر دينه، وراجع للأهمية جواب السؤال رقم : (131586) ، و (83912).
الأمر الثاني:
على المسلم في بلاد الغرب، أن لا ينأى بنفسه عن إخوانه المسلمين، فالانفراد عن الصالحين، فرصة للشيطان ليستفرد به ويغويه.
عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمُرِيِّ قَالَ: " قَالَ لِي أَبُو الدَّرْدَاءِ: أَيْنَ مَسْكَنُكَ؟ قُلْتُ: فِي قَرْيَةٍ دُوَيْنَ حِمْصَ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ رواه أبو داود (547)، والنسائي (847)، وحسنه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (547).
فعلى المسلم المغترب أن يبحث عن أهل الصلاح والتقى فيصحبهم، ويستنصحهم، ويجعلهم أعوانا له في الخير.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ رواه الترمذي (2395) ، وأبو داود (4832).
قال الخطابي رحمه الله تعالى :
" هذا إنما جاء في طعام الدعوة ، دون طعام الحاجة ، وذلك أن الله سبحانه قال وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ، ومعلوم أن أسراهم كانوا كفاراً غير مؤمنين ولا أتقياء.
وإنما حذر من صحبة من ليس بتقي ، وزجر عن مخالطته ومؤاكلته ، فإن المطاعمة توقع الألفة والمودة في القلوب، يقول : لا تؤالف من ليس من أهل التقوى والورع ، ولا تتخذه جليساً تطاعمه وتنادمه " انتهى من "معالم السنن" (4 / 115) .
ولذلك ينبغي للمسلم المغترب أن يكون على اتصال دائم بالمركز الإسلامي في مدينته، يصحب من فيه من أهل العلم والخير ، ويستفيد منهم ، ويفيدهم إن استطاع ، ويشارك معهم بقدر استطاعته في أنشطة الدعوة والخير التي يقومون بها .
الأمر الثالث: على المسلم أن يجعل طلب مرضاة الله تعالى ، والنجاة في الآخرة : القائد له في شؤونه كلها، ولا يجعل رغبة التوسع في العيش ، وملاذ الدنيا : هي المتحكمة في قراراته.
قال الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ التحريم/6 .
وعن زَيْد بْن ثَابِتٍ أنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ رواه ابن ماجه (4105)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2 / 634).
الأمر الرابع: على المسلم أن ينقل الهداية -التي أنعم الله عليه بها- إلى من حوله من أهل الكفر، وكذا إلى من ينتسب للإسلام وأضلته حياة الغرب ، فابتعد عن دينه، فليجتهد المسلم المغترب أن يكون من الأمة التي تدعو إلى الخير.
قال الله تعالى : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ آل عمران /104.
وليتذكر قول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ رواه البخاري (3009) ، ومسلم (2406).
الأمر الخامس: على المسلم أن يحفظ عهده مع هؤلاء الأقوام، فلا يغش ولا يغدر.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" من دخل إلى أرض العدو بأمان، لم يخنهم في مالهم، ولم يعاملهم بالربا "...
وأما خيانتهم، فمحرمة؛ لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطا بتركه خيانتهم، وأمنه إياهم من نفسه، وإن لم يكن ذلك مذكورا في اللفظ، فهو معلوم في المعنى .
ولذلك من جاءنا منهم بأمان، فخاننا، كان ناقضا لعهده.
فإذا ثبت هذا، لم تحل له خيانتهم، لأنه غدر، ولا يصلح في ديننا الغدر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( المسلمون عند شروطهم ) " انتهى من "المغني" (13 / 152).
وجاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (31 / 144 - 145):
" اتفقوا على أنه يجب على من دخل من المسلمين دار الحرب بأمان منهم : أن لا يغدرهم ، ولا يخونهم " انتهى.
الأمر السادس: على المسلم أن لا يعقد من المعاملات ، إلا ما أحله الشرع من العقود والشروط، وإذا عقد عقدا أو تحمل شرطا، فعليه الوفاء به.
قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ المائدة/1.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود، وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك ... " انتهى من "القواعد النورانية" (ص 272) .
وكونهم كفارا : لا يسوغ خديعتهم.
قال الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ المائدة/8.
قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" وفي هذه الآية دليل صريح على أن الإنسان عليه أن يعامل من عصى الله فيه؛ بأن يطيع الله فيه.
وفي الحديث: ( أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك ).
وهذا دليل واضح على كمال دين الإسلام، وحسن ما يدعو إليه من مكارم الأخلاق، مبين أنه دين سماوي لا شك فيه " انتهى من "أضواء البيان" (2 / 8 – 9).
الأمر السابع: العدل في المعاملة، وكذا الإحسان الذي أذن لنا الشرع أن نعامل به المسالمين من الكفار.
قال الله تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ الممتحنة /8.
كل هذا لا يلزم منه جواز حبهم وموالاتهم، بل يجب على المسلم أن يشتمل قلبه على بغض ما يمارسونه من الكفر والفسق، وأن لا يتخذهم أولياء ولاخلانا.
قال الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ المائدة/51.
والأدلة على هذا كثيرة مشهورة .
الأمر الثامن: الحذر من فتنة النساء واتقائها ؛ فإنها من أعظم الفتن التي تواجه الرجل المسلم هناك .
روى البخاري (5096) ، ومسلم (2740) عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ .
الأمر التاسع: هذه البلدان مرتع للمآكل والمشارب المحرمة فعلى المسلم أن يتحفظ في مأكله ومشربه، وليطالع مكونات ما يتناوله.
ثانيا:
هذه جملة من الكتب المفيدة للمسلم المقيم ببلاد الغرب، وبعضها يحتوي على أحكام معاملة غير المسلمين.
كتاب "التعامل مع غير المسلمين" للدكتور عبد الله الطريقي.
كتاب "فقه النوازل للأقليات المسلمة" للدكتور محمد يسري إبراهيم.
كتاب " أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في بلاد الغرب" للدكتور سالم بن عبد الغني الرافعي.
كتاب " الهجرة إلى بلاد غير المسلمين" للشيخ عماد عامر.
كتاب "فقه الأقليات المسلمة" للشيخ خالد عبد القادر.
كتاب "المسلمون في بلاد الغربة" للدكتور أمين الشقاوي.
كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
كما أن في كتب فتاوى أهل العلم في هذا العصر جملة من الفتاوى التي تتعلق بالمسلم في بلاد الغرب.
والله أعلم.