الحمد لله.
ما ذكرته من هذه العجائب كلها لا يصح منه شيء ، وقد روى في فضائل هذه الصخرة روايات أخرى ، وقد تتابع أهل العلم على تضعيفها والحكم بكذبها.
قال ابن القيم:
" وكل حديث في الصخرة : فهو كذب مفترى، والقدم الذي فيها كذب موضوع، مما عملته أيدي المزورين...
وقد أكثر الكذابون من الوضع في فضائلها ... " انتهى. "المنار المنيف" (ص 79 – 80).
وإنما الوارد في هذه الصخرة أمران:
الأمر الأول: أنه ربط فيها براق الذي ركبه النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء.
عَنْ بُرَيْدَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ قَالَ جِبْرِيلُ بِإِصْبَعِهِ، فَخَرَقَ بِهِ الحَجَرَ، وَشَدَّ بِهِ البُرَاقَ ) رواه الترمذي (3132) وقال: " هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ "، ورواه الحاكم في "المستدرك" (2 / 360) وقال: " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ "، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (7 / 1425).
ورواه ابن حبان (47) بلفظ : ( ... فَخَرَقَ جِبْرِيلُ الصَّخْرَةَ بِإِصْبَعِهِ وَشَدَّ بِهَا الْبُرَاقَ ).
ورواه البزار في "المسند" (4398) بلفظ : ( ... فأتى جِبْرِيلُ الصَّخْرَةَ الَّتِي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَوَضَعَ أُصْبُعَهُ فِيهَا ).
لكن هذا يعارض ما رواه الإمام مسلم في "الصحيح" (162) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قَالَ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ ... ) رواه مسلم (162).
وهذا التعارض جعله الألباني قرينة لضعف حديث بريدة، قبل قوله بصحته؛ حيث قال رحمه الله تعالى:
" وقال الترمذي: "حديث غريب" أي: ضعيف، ولعل ذلك من أجل الزبير بن جنادة – راوي هذا الحديث عن ابن بريدة عن أبيه- فإنه لم يوثقه أحد غير ابن حبان؛ وتساهله في التوثيق معروف، وقال أبو حاتم: شيخ ليس بالمشهور. وكأنه لذلك قال الحافظ في "التقريب": مقبول. وأما الذهبي فإنه قال في "الميزان": "ذكره ابن حبان في "الثقات"، وأخطأ من قال: فيه جهالة، ولولا أن ابن الجوزي ذكره لما ذكرته".
وكأنه لذلك وافق الحاكم على قوله عقب الحديث: "صحيح الإسناد، وأبو تميلة والزبير مروزيَّان ثقتان"!
ولم تطمئن النفس لصحة هذا الحديث؛ لعدم شهرة الزبير هذا؛ ولأنه خلاف ما تقدم في حديث ثابت عن أنس الصحيح بلفظ: "فربطه بالحلقة التي يربط بها الأنبياء".
وله بعض الشواهد كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وتكلف الزرقاني في "شرح المواهب اللدنية" - تبعا لأصله 6/49 - في الجمع بين الحديثين فلا داعي لذكره " انتهى، من "الإسراء والمعراج" (58 - 59).
وحاول الطيبي رحمه الله تعالى الجمع بينهما، فقال:
" قوله: ( فخرج به الحجر ) فإن قلت: كيف الجمع بين هذا وبين قوله في حديث أنس: ( فربطه بالحلقة التي كان يربط بها الأنبياء )؟
قلت: لعل المراد من الحلقة الموضع الذي كان فيه الحلقة وقد انسد فخرقه جبريل عليه السلام " انتهى، من "شرح الطيبي على مشكاة المصابيح " (12 / 3794).
وعلى القول بأن البراق ربط بهذه الصخرة، فهذا ليس سببا شرعيا لتعظيمها، فإن التعظيم مبناه على الوحي.
الأمر الثاني: أنها كانت قبلة لليهود.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وأرفع شيء في الصخرة : أنها كانت قبلة اليهود، وهي في المكان ، كيوم السبت في الزمان، أبدل الله بها هذه الأمة المحمدية الكعبة البيت الحرام.
ولما أراد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يبني المسجد الأقصى ، استشار الناس: هل يجعله أمام الصخرة أو خلفها؟ فقال له كعب: يا أمير المؤمنين! ابنه خلف الصخرة. فقال: يا ابن اليهودية، خالطتك اليهودية، بل أبنيه أمام الصخرة حتى لا يستقبلها المصلون، فبناه حيث هو اليوم " انتهى. "المنار المنيف" (ص 79 – 80).
وقد نص بعض أهل العلم، أن اليهود اتخذوها قبلة من عند أنفسهم وليس بوحي من الله تعالى.
قال السهيلي رحمه الله تعالى:
" وروى أبو داود السنجري السجزي في كتاب الناسخ والمنسوخ له ... عن ابن شهاب قال:
كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لَا يُعَظّمُ إيلِيَاءَ كَمَا يُعَظّمُهَا أَهْلُ بَيْتِهِ، قَالَ: فَسِرْت مَعَهُ وَهُوَ وَلِيّ عَهْدٍ، قَالَ: وَمَعَهُ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ وَهُوَ جَالِسٌ فِيهِ: وَاَللهِ إنّ فِي هَذِهِ الْقِبْلَةِ الّتِي صَلّى إلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ وَالنّصَارَى لَعَجَبًا- قال ابن القيم: كذا رأيته والصواب: اليهود- قَالَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ: أَمَا وَاَللهِ إنّي لَأَقْرَأُ الْكِتَابَ الّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى مُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْرَأُ التّوْرَاةَ، فَلَمْ يَجِدْهَا الْيَهُودُ فِي الْكِتَابِ الّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ تَابُوتُ السّكِينَةِ كَانَ عَلَى الصّخْرَةِ، فَلَمّا غَضِبَ اللهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ رَفَعَهُ، فَكَانَتْ صَلَاتُهُمْ إلَى الصّخْرَةِ عَنْ مُشَاوَرَةٍ مِنْهُمْ " انتهى، من "الروض الأنف" (4 / 116 – 117).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى بعد ذكره لهذا الأثر وغيره:
" وقد تضمن هذا الفصل فائدة جليلة، وهي: أن استقبال أهل الكتاب لقبلتهم لم يكن من جهة الوحي والتوقيف من الله، بل كان عن مشورة منهم واجتهاد...
وأما قبلة اليهود؛ فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة ألبَتَّةَ، وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلون إليه من حيث خرجوا، فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلوا إليه، فلما رُفِعَ صلوا إلى موضعه وهو الصخرة " انتهى، من "بدائع الفوائد" (4 / 1605 - 1606).
فالحاصل؛ أن الصخرة لم يثبت فيها من الوحي ما يدعو إلى تعظيمها .
وما يعتقده طوائف من الناس في فضلها وتعظيمها، هو أمر مبتدع ، ولم يكن عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" ولا ريب أن الخلفاء الراشدين لم يبنوا هذه القبة، ولا كان الصحابة يعظمون الصخرة، ولا يتحرون الصلاة عندها، حتى ابن عمر رضي الله عنهما مع كونه كان يأتي من الحجاز إلى المسجد الأقصى، كان لا يأتي الصخرة.
وذلك أنها كانت قبلة، ثم نسخت. وهي قبلة اليهود، فلم يبق في شريعتنا ما يوجب تخصيصها بحكم، كما ليس في شريعتنا ما يوجب تخصيص يوم السبت.
وفي تخصيصها بالتعظيم مشابهة لليهود " انتهى، من "اقتضاء الصراط المستقيم" (2 / 348).
وقال أيضا:
" ومعلوم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين، والتابعين لهم بإحسان، قد فتحوا البلاد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وسكنوا بالشام والعراق ومصر، وغير هذه الأمصار، وهم كانوا أعلم بالدين، وأتبع له ممن بعدهم، فليس لأحد أن يخالفهم فيما كانوا عليه.
فما كان من هذه البقاع لم يعظموه، أو لم يقصدوا تخصيصه بصلاة أو دعاء، أو نحو ذلك: لم يكن لنا أن نخالفهم في ذلك، وإن كان بعض من جاء بعدهم من أهل الفضل والدين فعل ذلك؛ لأن اتباع سبيلهم أولى من اتباع سبيل من خالف سبيلهم " انتهى، من "اقتضاء الصراط المستقيم" (2 / 351).
ثانيا
أما أنها معلقة بالهواء، فهذا غير صحيح ، بل هي متصلة بجانب الجبل، وهذا مبيَّن في الفتوى رقم (3000).
ثالثا:
وأما القبة المبنية عليها فهي أمر محدث، كما ذكر أهل التاريخ، فقد تم بناؤها في عهد عبد الملك بن مروان أثناء حربه لعبد الله بن الزبير رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وكانت الصخرة مكشوفة، ولم يكن أحد من الصحابة، لا ولاتهم ولا علماؤهم يخصها بعبادة، وكانت مكشوفة في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما، مع حكمهما على الشام. وكذلك في خلافة علي رضي الله عنه، وإن كان لم يحكم عليها، ثم كذلك في إمارة معاوية، وابنه، وابن ابنه.
فلما كان في زمن عبد الملك ، وجرى بينه وبين ابن الزبير من الفتنة ما جرى، كان هو الذي بنى القبة على الصخرة، وقد قيل: إن الناس كانوا يقصدون الحج فيجتمعون بابن الزبير، أو يقصدونه بحُجَّة الحج، فعظّم عبد الملك شأن الصخرة، بما بناه عليها من القبة، وجعل عليها من الكسوة في الشتاء والصيف، ليكثر قصد الناس للبيت المقدس، فيشتغلوا بذلك عن قصد ابن الزبير، (والناس على دين الملك) .
وظهر من ذلك الوقت ، من تعظيم الصخرة وبيت المقدس : ما لم يكن المسلمون يعرفونه بمثل هذا، وجاء بعض الناس ينقل الإسرائيليات في تعظيمها " انتهى، من "اقتضاء الصراط المستقيم" (2 / 347 - 348).
والله أعلم.