لا يجوز من المعازف إلا الدف، فماذا لو جهل السامع الأداة المستخدمة فيما يسمع، أهي دف، أو طبل، أو غيرهما؛ لكونه لا يراها، وليس ممن يميز الفروق الصوتية، فهل له الاستماع تغليبًا لجانب الحل؟ أم الإعراض تغليبًا لجانب الحرمة، مع ما في ذلك من الحرج والمشقة، لشدة انتشارها، وصعوبة التحرز منها، بل قد يأمره أبواه بالاستماع في الأعياد ونحوها، ولا يرضيان بغير ذلك؟
الحمد لله.
أولا:
يحرم استماع المعازف كلها؛ إلا الدف؛ لما روى البخاري أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ).
و (الْحِرَ) أي الزنا .
وحكى الإجماع على تحريم استماع آلات اللهو غير واحد من العلماء، وينظر: جواب السؤال رقم: (5000).
وينظر في تحريم سماع الطبل: جواب السؤال رقم: (85430).
وجاء في استثناء الدف أدلة سبق بيانها في جواب السؤال رقم: (45862)، ورقم: (20406).
وإذا حصل اشتباه في الصوت المسموع: هل هو صوت دف أم طبل؟ وجب اجتناب سماعه؛ عملا بالأصل، وهو تحريم استماع المعازف.
قال الغزالي رحمه الله في "إحياء علوم الدين" (2/91): "إذا كان التحريم معلوما من قبل، ثم وقع الشك في المحلل: فهذه شبهة يجب اجتنابها، ويحرم الإقدام عليها" انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" (4/292): " لمّا تقدم في حديث النعمان بن بشير أن الشبهات ( لا يعلمها كثير من الناس )؛ واقتضى ذلك أن بعض الناس يعلمها، أراد المصنف [أي البخاري] أن يُعرِّف الطريقَ إلى معرفتها لتجتنب، فذكر أولا ما يضبطها، ثم أورد أحاديث يؤخذ منها مراتب ما يجب اجتنابه منها، ثم ثنى ببابٍ فيه بيان ما يستحب منها، ثم ثلث بباب فيه بيان ما يكره.
وشرحُ ذلك: أن الشيء إما أن يكون أصله التحريم، أو الإباحة، أو يشك فيه.
فالأول: كالصيد، فإنه يحرم أكله قبل ذكاته، فإذا شك فيها، لم يزل عن التحريم إلا بيقين، وإليه الإشارة بحديث عدي بن حاتم.
والثاني: كالطهارة؛ إذا حصلت، لا تُرفع إلا بيقين الحدث. وإليه الإشارة بحديث عبد الله بن زيد في الباب الثالث. ومن أمثلته: من له زوجة وعبد، وشك هل طلق أو أعتق، فلا عبرة بذلك وهما على ملكه.
والثالث: ما لا يُتَحققُ أصله، ويتردد بين الحظر والإباحة، فالأولى تركه، وإليه الإشارة بحديث التمرة الساقطة في الباب الثاني" انتهى.
ومسألتنا من النوع الأول، وهو ما أصله التحريم؛ فإذا حصل الشك في المبيح، وجب البقاء على الأصل، كما في حديث عدي رضي الله عنه، وهو ما روى البخاري (2054) ومسلم (1929) عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَلْبِ، فَقَالَ: (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ)، قُلْتُ: فَإِنْ وَجَدْتُ مَعَ كَلْبِي كَلْبًا آخَرَ، فَلَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَخَذَهُ؟ قَالَ: (فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ).
فالأصل تحريم الصيد، إلا إذا سمي على الكلب أو السهم، فإذا شارك الكلبَ المرسَل كلبٌ آخر، ولم يُعلم من الذي صاد، حرم الأكل؛ للشك في المبيح، والأصل التحريم.
وكذلك هنا، فإذا حصل شك هل هذا دف أو طبل، حرم الاستماع؛ للشك في المبيح، والأصل التحريم.
ثانيا:
طاعة الوالدين واجبة في غير المعصية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل) رواه أحمد (1098) واللفظ له، والبخاري (4340)، ومسلم (1840).
وعليه؛ فلو أمرك والداك بسماع ما يحتمل أن يكون صوت دف أو طبل، حرمت طاعتهما؛ لما تقدم.
وينبغي أن تبيني لهما حكم المسألة، وأن الأصل تحريم استماع آلات العزف كلها إلا الدف، وهذا مشكوك في كونه دفا، واليقين لا يزول بالشك.
والله أعلم.