الحمد لله.
أولا :
قد تواترت الأحاديث الصحيحة أن الدجال لن يدخل المدينة المنورة ، وأن الله تعالى يجعل على أبوابها الملائكة يحرسونها .
وهذه بعض الأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك :
منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (1880) ، ومسلم في "صحيحه" (1379) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( عَلَى أَنْقَابِ المَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ لاَ يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ ، وَلاَ الدَّجَّالُ ).
ومنها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (1881) ، ومسلم في "صحيحه" (2943) من حديث أنس رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: ( لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ ، إِلَّا مَكَّةَ ، وَالمَدِينَةَ ، لَيْسَ لَهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ ، إِلَّا عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا ، ثُمَّ تَرْجُفُ المَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلاَثَ رَجَفَاتٍ ، فَيُخْرِجُ اللَّهُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ ).
وهذا أمر ثابت يقيني لا شك فيه .
قال ابن هبيرة في "الإفصاح عن معاني الصحاح" (5/103) في شرحه لحديث أنس رضي الله عنه قال :" في هذا الحديث ما يدل على أن الله تعالى حمى البلدين من أن يسلط عليها الدجال ، وأن المدينة خاصة ترجف بأهلها فيخرج منها كل كافر ومنافق ". انتهى
وقال ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (4/551) :" ولذلك نوقن أن الدجال لا يستطيع دخولها البتة ، وهذا فضل عظيم للمدينة ، وقد أخبر الله تعالى أنه يوكل الملائكة بحفظ من شاء من عباده من الآفات والعدو والفتن ، فقال تعالى:" لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ". انتهى
ثانيا :
وأما الحديث الذي أورده السائل الكريم ، وظن أنه يثبت دخول الدجال إلى المدينة ، فليس كما ظنه السائل ، وبيان ذلك من وجوه:
الأول :
الحديث أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 5353) ، وحنبل بن إسحاق في "الفتن" (36) ، من طريق مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ ، عَنْ سَالِمٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يَنْزِلُ الدَّجَّالُ فِي هَذِهِ السَّبَخَةِ بِمَرّ ِقَنَاةَ ، فَيَكُونُ أَكْثَرَ مَنْ يَخْرُجُ إِلَيْهِ النِّسَاءُ ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَرْجِعُ إِلَى حَمِيمِهِ وَإِلَى أُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ ، فَيُوثِقُهَا رِبَاطًا ، مَخَافَةَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ ، ثُمَّ يُسَلِّطُ اللهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ ، فَيَقْتُلُونَهُ وَيَقْتُلُونَ شِيعَتَهُ ، حَتَّى إِنَّ الْيَهُودِيَّ ، لَيَخْتَبِئُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أَوِ الْحَجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرَةُ لِلْمُسْلِمِ: هَذَا يَهُودِيٌّ تَحْتِي فَاقْتُلْهُ ) .
والحديث ضعيف لأجل عنعنة محمد بن إسحاق ، فإنه مدلس ، وبه أعله الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/473) ، والشيخ الألباني في "قصة المسيح الدجال" (ص88) .
الثاني: على فرض صحة الحديث فإنه لا تعارض بينه وبين ما ثبت في الأحاديث من أن الدجال لا يدخل المدينة المنورة ؛ فإن هذا الحديث لم يثبت دخوله المدينة ، وإنما يثبت مروره بمجرى قناة في أرض سبخة ، ولم يعين كونها من أرض المدينة .
وهذا المعنى قد ورد في عدة أحاديث صحيحة ، لكن ثبت أن هذه الأرض السبخة خارج المدينة ، وليست بداخلها .
ومن هذه الأحاديث ما يلي :
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال :" حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا حَدِيثًا طَوِيلًا عَنْ الدَّجَّالِ ، فَكَانَ فِيمَا يُحَدِّثُنَا بِهِ أَنَّهُ قَالَ: ( يَأْتِي الدَّجَّالُ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ المَدِينَةِ ، فَيَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِي تَلِي المَدِينَةَ ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ ، وَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ - أَوْ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ - فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَهُ ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ، ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ ، هَلْ تَشُكُّونَ فِي الأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لاَ ، فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ فِيكَ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي اليَوْمَ ، فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَلاَ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ ) . أخرجه البخاري في "صحيحه" (7132) ، ومسلم في "صحيحه" (2938) .
فتأمل موضع الشاهد من الحديث ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :" فَيَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِي تَلِي المَدِينَةَ ".
قال ابن حجر في "فتح الباري" (13/102) :" قَوْلُهُ " فَيَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ " : بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ ، جَمْعُ سَبَخَةٍ ، بِفَتْحَتَيْنِ ، وَهِيَ الْأَرْضُ الرَّمِلَةُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ لِمُلُوحَتِهَا ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ خَارِجُ الْمَدِينَةِ ، مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْحِرَّةِ .
قَوْلُهُ " الَّتِي تَلِي الْمَدِينَةَ " : أَيْ مِنْ قِبَلِ الشَّامِ ". انتهى
حديث أنس رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ ، إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ ، وَلَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أَنْقَابِهَا إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ صَافِّينَ تَحْرُسُهَا ، فَيَأْتِي سِبْخَةَ الْجُرُفِ ، فَيَضْرِبُ رِوَاقَهُ ، فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ ، يَخْرُجُ إِلَيْهِ مِنْهَا كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ ) . أخرجه مسلم في "صحيحه" (2943) .
وموضع الشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم :" فَيَأْتِي سِبْخَةَ الْجُرُفِ فَيَضْرِبُ رِوَاقَهُ " ، وسبخة الجرف مكان خارج المدينة .
قال ابن حجر في "فتح الباري" (13/93) :" وَالْجُرُفُ : بِضَمِّ الْجِيمِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا فَاءٌ مَكَانٌ بِطَرِيقِ الْمَدِينَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ، عَلَى مِيلٍ، وَقِيلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ .
وَالْمُرَادُ بِالرِّوَاقِ: الْفُسْطَاطُ.
وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: نَزَلَ عِنْد الطَّرِيق الْأَحْمَرِ، عِنْدَ مُنْقَطَعِ السَّبَخَةِ ". انتهى.
فتبين مما سبق أن الأحاديث الصحيحة المتواترة على أن الدجال لن يدخل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن الله جعل الملائكة على أبوابها ، وأن الدجال إنما يكون بأرض سبخة خارج المدينة تدعى " سبخة الجرف " ، وعلى هذا فلا تعارض بين الأحاديث .
والله أعلم .